أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

مريم عبد الحكيم مفيد تكتب: “سلام على قبور تنمو فوقها الورود، بدون استئذان الاحتلال”

مريم عبد الحكيم مفيد

يومك سعيد يا أبت، أنا ابنتك مريم وأنت لا زلت تذكر، أهديك السلام من الدنيا، جناح البعوضة التي لا تساوي في قلبك شيئا، ماذا تشبه تلك البداية؟… شيئا جميلا  كتبته في كتابك “رواية لاجئ”، أحاول دائما أن أقلدك.. وأفشل، حفظتها يوما غيبا، وسجلتها بصوتي وسمعتني.

كنت أحب أن أعرف نفسي “مريم عبد الحكيم”، هكذا.. دون إضافة أخرى، كنت فخورة بك لكنني لم أرد أن أسرق حب الناس لك، كنت أريد أن أقول إنني ابنة عبد الحكيم الأب لا عبد الحكيم مفيد المشهور. الآن، لا أريد أن أسرق محبة الناس لك، بل أريد أن أقول يا رب أنا ابنة عبدك الصالح، أولست أنت قلت يا رب “وكان أبوهما صالحا”، أريد أن أقول يا رب، أنا مريم عبد الحكيم مفيد ابنة عبدك الحكيم المفيد الصالح النجيب، هذا أبي يحبني وأحبه يسيئه ما يسيئني، فهلا رحمتني وغفرت لي يا حبيبي؟ أنا ممتنة يا رب، بأن اصطفيتنا واخترتنا ليكون لنا حبيبا وأبا ورفيقا وصديقا، حمدا لك يا رب لأننا تربينا في مدرسة الحكيم، مدرسة التوكل “توكلوا عالله” هكذا كان يقول دائما، “الصلاة يابا الصلاة” .. “حافظوا عدينكم يابا” .. “اذكروا الله.. قولوا لا إله إلا الله، صلوا عالنبي…”.

هل قلت لك إنني منذ زمن لم أكتب أو أدون وتقريبا لا أعرف السبب، الآن يجب أن تفك العقدة وإلا انفرطت عقدة قلبي يا حبيبي، وحدنا نعرف كيف تكون الكتابة وسيلة للتصبر. رثيت جدتي قبل سنة، أذكر بأنه ولسبب لا أعرفه قررت قراءتها قبل أسبوعين تقريبا، بكيت خفية حينها، وحده الله تعالى يعلم كم أنت صادق في كلامك لا ترص الأحرف رصا كما نفعل، بل تكتب من قلبك بل قل من نورك.

ماذا يعرفون عنك؟ عبد الحكيم مفيد المفكر والسياسي والمهاجم بشراسة حين يستحق الأمر، ربما يعرفون أيضا بأنك مرح وفكاهي، هل يعلم أحد كيف تقلب عينيك وتخرج لسانك أمام الأطفال؟ كيف تحاول استفزازي مازحا وتغضب وتهدأ وتضحك وتبكي خلال دقيقتين ونصف؟ هذه الروح المندفعة الطفولية فيك.. ماذا يعرفون عنك؟ أكان الناس يقبلون أيدي أمهاتهم؟ أنت كنت تمرغ وجهك الطاهر المبارك تحت رجليها، أكان الناس يحضنون بناتهم وأخواتهم؟ أنت كنت تقبل أيدينا ورؤوسنا.

عندما يتوفى شاب في مقتبل عمره تقول أمه “كان حلمه كذا، يطمح لدخول الكلية الفلانية، يطمح للعمل في الشركة الفلانية” وهكذا كنت أنا، كنت أمك التي تعد أحلامك حلما بعد حلم، توفيت وأنت في عز طموحك وفي عز أحلامك وفي عز نشاطك.

دعني أعدد أحلامك الكثيرة.. أن تحفظ القرآن، أن تنهي رسالة الدكتوراة في الإعلام، وأن تنهي الماجستير في الشريعة، رسالة كنت تود أن تثبت فيها بأن النكبة حصلت بسبب عقائدي لا قومي، أن تؤسس مشروعا إعلاميا ضخما، في التوثيق والدراسات والأبحاث وإعداد موسوعة إعلامية، أن تسافر مع أمي حول العالم، أن تشتري شقة في عكا تطل على البحر، وأن تكون من جند المهدي، كنت تحلم بهذا اليوم بشكل لا يصدق..

ماذا تعلمت منك؟ أن أكون حرة.. وأن لا أكون إمعة.. أن أحارب حتى آخر رمق.. أن أكسر القوالب ومسلمات المجتمع.. وأن تكون لي عقيدتي الراسخة التي لا تتزلزل.. أنت أب مثالي، في العادة يود الآباء أن يكون الأبناء نسخة عنهم، وأنت تريدينا أن نكون ذواتنا، يا لجمال الاختلاف معك يا حبيبي، يا لجمال التناطح بالرؤوس في الصغر والتناطح بالأفكار في الكبر.. يا لجمالك وأنت تقول لي “فيلسوفة زمانك انت” الآن عرفت بأنني لم أكن المركز ولم أكن المفضلة من بين الجميع، لقد شعر الجميع نفس الشعور، بأنك تفضلهم عن غيرهم، كل شخص قابلته قلت له في حياتك جملة لن ينساها، يذكرها في كل لقاء، ويتباهى فيها بين الجموع.. بالمناسبة، في الغرفة المجاورة كان هناك جدال حاد بين “الولايا” حول “الولية” المفضلة عندك.

تذكر “مقابلة العمل” (كما أسميتها) بيني وبينك في أحد المطاعم، كان صوتك عاليا كعادتك، تملأ الدنيا بصوتك، تشرح بحماس واندفاعية عن مشروعك لمركز الإعلام، قلت لي: “أريدك أن تصبحي مرجعية يا مريم، تخصصي ولا تتشتتي، ستكونين ذات شأن عظيم أيتها الباحثة”، آخر رسائل بيننا كانت تخطيطا لمشروعك العظيم يا عظيما بقلبي وفكري وروحي.. آخر مرة جلسنا معك قلت: “أنا لا يربطني بهذه الدنيا سوى مشروع مركز الإعلام”.. تقول لي باستياء “أمانة تشوفي المصادر العربية بموضوع الاعلام فضيحة ممرتش يابا” ترد أمي “انتو بتغيروا الوضع إن شاء الله” .. أراك كيف تتكلم عنه بحماسة وينفطر قلبي الآن، وعزائي أن الله تعالى أكرم مني ومنك يا حبيبي، وأرحم مني عليك.

كنت تقول دائما: “أنا مستعد للموت بإذن الله”، تقولها وأنت متحمس كعادتك. ماذا يعرفون عنك؟ ماذا فعلت قبل أن تخرج من بيتنا؟ غسلت الصحون وأعددت القهوة واعتذرت عن الغداء قلت بأنك مدعو عند أحدهم.. أردت أن اسأل كيف هو طعام الجنة يا حبيبي؟

ماذا يعرفون عنك؟ لديك قوائم كثيرة لتساعد هذا وتفرج كرب ذاك، تزور مريضا وتحضر جنازة. قالت لك إحداهن مرة: “أنت ستدخل الجنة من باب جبر الخواطر يا عبد الحكيم”. لسانك لا يهدأ عن ذكر الله، ويبدو جميلا وجهك وهو مستاء وأنت تقول “وين المسبحة راحت، بغدرش اطلع بدونها” …

تعلم يا روح قلبي.. علمنا بموتك بعد ساعات ربما ثلاث أو أربع! هل كانت فرصة للتذكر بأنك وحيد إلا من عملك وصلاحك؟ كنا نتحدث عن الشهرة فتجيبنا “مش مهم نكون مشهورين بالأرض المهم نكون مشهورين عند أهل السماء” هل بكت السماء والأرض عليك؟ وإلا فلم أمطرت يوم جنازتك يا روح قلبي؟!! ما جف دمعي، وبكى الغمام معي بعد انقطاع طويل..

آخر مدينة زارها حبيبي هي عكا؟ عكا يا ربي!!! عكا التي يحب، المدينة المفضلة عنده، يزورها فجرا ومساء، دائما كان يقول “مناي أن يكون لي بيت في عكا.. سنشتري بيتا في عكا.. يا سلام.. يطل على البحر..” بالله قل لي كيف هو بيت الجنة؟ وكيف هو بحر الجنة؟ وكيف هي عكا الجنة.. يا حبيب عكا ووالي عكا..

أبي الذي لا تعرفون.. الذي يحب البحر والحياة والموت، يحب لقاء ربه، يحب الذكر والصيام وإطعام الضيف ومساعدة الأرامل واليتامى، ويحب السفر، كان يقول رحمه الله ورضي عنه وأرضاه: “خلص زهقت، بدي أبطل أحكي بالتلفزيونات، بديش أصير من نجوم الشاشة بدي أصير من نجوم السماء”، عبقري وذكي، لكل سؤال منا هناك إجابة، وليس بالضرورة أن تكون إجابة جاهزة، يعطيني كتابا ويقول “اقري يابا ودوري منيح..”، كان يقول لأمي “أنا يا نوال شوفير عندك، وين ما بدك بروح، قدمي للدعوة يا نوال ومتسأليش” يذهب بها من أقصى الجنوب حتى أقصى الشمال ولا يرفض لها طلبا، لم يحدث أن قال لها اجلسي في بيتك ولا تسافري أو تقدمي محاضراتك، “روحي وين ما بدك يا نوال، وأنا شوفيرك”، كان يحب سيدنا النبي كثيرا وسيدنا أبو بكر وسيدنا عمر والسيدة عائشة ويبغض ويمقت ويعادي من يعاديهم بكل ما أوتي من حب لآل البيت، كان يفتخر دائما بنسب أمه حورية سليم رحمهما الله، “أمي من دار زيد الكيلاني من نسل السيدة فاطمة”، وكان يعشق المديح النبوي..

أما أبي الذي لا أعرف فهو خبايا وأعمال صالحة خفية لا أعلمها، ظهرت في وجهه وفي عينيه وفي مبسمه!! دخيل الذي خلقك بهذا الجمال يا روحي.. نور على نور يا حبيبي.. وعزائي ذلك الوجه المشرق الذي لم أر – والله الذي لا إله إلا هو- أكثر اشراقا ونورا وحبا وجمالا منه، عزائي هذا الحب المنتشر والدموع الصادقة والقلوب الطيبة التي أحبتك، عزائي بأنه في غزة المكان الذي تعشق، كان هناك بيت عزاء لك، عزائي بأن الله هو الله، عزائي بأن هذا قضاء الله وقدره، عزائي لقاء يجمعنا في الفردوس الأعلى بإذن الله.

ماذا بينك وبين الله يا أبت؟ ماذا رأيت حتى تضحك هكذا يا نور حياتي؟ كنت أقول لك “يابا بتعرف انك كثير حلو وانت بالثلاثينات”، وأضحك ثم أقول “باللحية أحلى يابا، بدون اللحية انت مش حلو”.. يوم مماتك كنت أبهى، أجمل، أنضر من أي وقت مضى.. أنا أعلم بأنك صالح والله أعلم (بضم الهاء أو كسرها)، لكن أنا تفاجأت بهذا النور، شيء غريب جميل لا يوصف، والله لا يوصف، لست من الذين يبالغون، ابنتك منطقية للحد الذي تعرف، كسرت ابتسامتك كل منطقي، كل قوانيني المادية التعيسة، كنت أود أن أحتفظ بقبس من نورك، لكنني تذكرتك وأنت تنتقد من لا يراعي حرمة الأموات، “حرمة ميت هاي يابا ممنوع كلشي ينتشر”، لم تكن تتحدث عن الجثث أصلا بل عن صور عادية، لم أفهم قصدك تماما حينها، هل ستغضب لأنني سأنشر قائمة مهامك الأخيرة؟ وصورك وأنت تبكي في أنشودة هو الحق؟ أرجوك لا تغضب.. وحرمتك مصانة محفوظة يا حبيبي.

يقولون ادع لأبيك، سأدع والله ولن أمل بإذنه، ولكن.. أنا التي تتصبر بصالح أعمال والديها، “وكان أبوهما صالحا”  أستأنس بهذه الآية وأرحم قلبي الضعيف بها..

اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة، اللهم أدخله الفردوس الأعلى دون سابقة حساب ولا سابقة عذاب، مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، مع سيدنا النبي وأسيادنا أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.. اللهم اكتبه من الشهداء الأولياء الصالحين الصديقين، واحشرنا معه في الفردوس الأعلى، وألهمنا الصبر وارزقنا حسن الخاتمة ولا تفتنا بعده يا رحيم.. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك فيه، اللهم ارحم عبدك الحكيم المفيد الصالح النجيب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .الفاتحة.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى