القدس عُروبةٌ وتاريخ وهي مفتاح الحرب والسلم (2من3)
علي عقلة عرسان
فرض هيرودوس الأكبر حاكمُ القدس سلطتَه، وأعاد ترميم الهيكل في القدس. وتنافس الحاخام الأكبرُ وأتباعُه مع الحاكم الإداري وأنصاره، أي تنافس اليهود الذين يفرضون على المدينة لونا ويطردون سواهم منها أو يضطهدونهم فيها، تنافسوا مع العرب، السكَّان الأصليين الذين يتشبثون بمدينتهم ومواقعهم، ويدافعون عن حضورهم ويحمون وجودهم ولو تحت أقنعة يهودية أحيانا.
رسالة السيد المسيح
كرَّس هيرودوس وجودا لليهود في القدس، رغبة أو رهبة، وإثباتا للقدرة الذاتية أو للتوجه الجديد، واستمرت معاناة غير اليهود في المدينة والمنطقة التي شملها نفوذُهم. وشهدت المدينة ولادة رسالة السيد المسيح عيسى بن مريم واضطهاده.
وقام أندرونيكوس الروماني عام 70م بهدم الهيكل الذي بناه ـ أو رمَّمه ـ هيرودس، بلا أسباب أو مسوغات، ففي كل وقت ومكان يثير التعصب اليهودي الآخرين ضدهم ويدفعهم إلى العنف، لأنه تعصب عنصري يقود إلى تصرفات وممارسات شريرة عمياء، يمليها الاستعلاء العنصري والجهل والركون إلى الخرافات والأساطير العنصرية أو الصدور عنها.
أنهى هدمُ هيكل هيرودوس على يد الإمبراطور الروماني تيتوس الوجودَ الديني اليهودي الرسمي في القدس، لأنه بتهديم الهيكل زالت السلطة الدينية، وحُلّّ المجلس اليهودي الديني “السنهدريم” عام 70م، ولكن لم ينته الوجود اليهودي في القدس كليّا ولم يرم تيتوس إلى ذلك، ولم ينته أيضا الصراع المر حول هوية مدينة القدس ومركزها وتكوينها السكاني وسلطتها الدينية. لقد انخفضت مكانتها، وتحولت إلى ما يشبه المعسكر والمستودعات للجيش الروماني، وغابت عنها نسبيا معسكرات الديانات المتناحرة: الوثنية، اليهودية، المسيحية.
ولكن ذلك لم يطُل، فقد جددت جماعات “سمعان باكوخبا ” اليهودية تعصّبها العنصري وعبَثَها وإرهابها وقامت بتمرد مكشوف وتحصنت في القدس بين عامي (32 ـ 135م)، الأمر الذي أدى إلى قيام الإمبراطور الروماني هدريان بقتالها والقضاء عليها نهائيا في معركة “بيتر”، على بعد عشرة كيلومترات جنوب غرب القدس. وقام هدريان بتدمير القدس بشكل كامل تقريبا وببناء مدينة جديدة على أنقاضها سماها ” إيلينا كابيتولينا ” على اسم زوجته، وغاب من التداول اسم “أور شليم” أو “أور سالم” العربي القديم، الذي يعود للّغات أو اللهجات العمورية ـ الكنعانية والأكاديَّة.
وقد أَخرجَ هدريان اليهود من القدس و”حظر عليهم دخولها والإقامة فيها”، وأخذ الرومان يبنون فيها معابدهم أو يزيدون من عدد تلك المعابد فيها، وجعلوا من موقع قبة الصخرة مزبلة “لأنها كانت قبلة اليهود” كما يقال. وقبل الرومان بقرون كان نبوخذ نصر قد “قذَفَ الكِناسات في أور سالم ـ بيت المقدس.
لقد أدى فعلُ الإمبراطور هدريان إلى ما يمكن تسميته التطهير الثالث للقدس من بعض اليهود الذين لم يعرفوا أبدا كيف يتعايشون مع الأمم، لضيق أفق وتعصب عنصري، ولرؤيتهم إلى ربهم “يهوه” على أنه قوة الحقد العمياء المنصبَّة على بقية الخلق في رغبة جامحة لتدميرهم وإبادتهم، لا لشيء إلا لأن أولئك الآخرين غير اليهود، “الغوييم”، ليسوا من “شعبه المختار؟!” الذي لا يكون ولا ينبغي أن يكون إلا يهوديا!؟ ولرغبتهم في احتكار “رحمته” التي ينبغي ألا تتسع لسواهم!؟!
وهذا أكثر من عقم فكري وروحي وأكثر من غباء مقيم. ولذلك رفضوا المسيح وإلهه، لأن المسيح عليه السلام يدعو إلى شيء مغاير، فهو يقول: “ملكوت الله هو هبة الله للبشر أجمعين وإنه يتم بإرادة الله”، فكيف يبقى مثل هذا المرسَل في القدس وهو يريدها مدينة للجميع؟! وكيف يأخذون برسالته وهو يريد أن يوسِّع دائرة المحبة والرحمة لتشمل خلق الله من غير اليهود أيضا، وفي ذلك شيء من مساواة لليهود بغيرهم من الناس؟! وهذا ما يرفضه اليهود؟!
وربما لهذا السبب وسواه حوَّل اليهودُ “مكانَ المَصلوب” إلى مرمى للقمامة، ولم يبق في القدس مكان لم يدنَّس على أيدي الغزاة وعلى يد سائر الغزاة والسكان المجلوبين إليها؛ أولئك الذين يعبثون بمقدَّراتها على حساب سكانها العرب الأصليين، وعلى حساب الهوية العربية والتاريخ العربي الذي للمدينة، وعلى حساب اللغة العربية في أصلها “الآرامية” أو لهجتها وسواها من اللهجات التي حملت أداءها المعرفي ومعاناة الناس فيها. وأرى أن طريقة التدوين للهجات، وفق لفظ كل منطقة وعصر، هو الذي جعل من تلك اللهجات لغات قديمة.
لقد أدى اعتناق الملك قسطنطين الدين المسيحي إلى رفع المعاناة عن المسيحيين في المدينة المقدسة، بعد أن كانوا عرضة للاضطهاد من قبل اليهود والرومان؛ ولم يكن أولئك الذين كانوا يعانون إلا من أبناء المنطقة ومن سكانها، وممن تحولوا عن الوثنية أو اليهودية وآمنوا برسالة ابن مريم، وقد لاقوا تشريدا عن أرضهم ونفيا وخوفا وفزعا في ظل إمبراطورية الغرب وقوتها الغازية: الإمبراطورية الرومانية آنذاك، ومن قبل اليهود الذين اضطهدوا أهل القدس الأصليين وكلَّ من والاهم.
وفي القدس بَنت أم الملك قسطنطين هيلانة الحَرَّانيَّة البندقانية كنيسة القيامة في المكان الذي فيه قبر المصلوب؛ ذلك المكان الذي كان قد حوّله اليهود إلى محل لإلقاء القمامة إمعانا منهم في اضطهاد المسيحيين وإذلالهم. وبنى الملك قسطنطين كنيسة أخرى، وأخذ وجود الكنائس يتجاور مع المعابد الرومانية في “إيليا كابيتولينا”، التي لم يعد فيها وجود لهيكل يهودي بعد هدمه للمرة الثالثة وأكثر. كما قُيِّد دخولُ اليهود إليها أو مُنِعَه، وكذلك منع إقامتهم فيها، ولم يصبح في القدس أبرشية وبطريارك إلا عام 451 م، ولكن توجهها إلى ذلك وتمهيد استحقاقها له بدأ مع جهود قسطنطين وهيلانة وكيرلس المقدس.
كان نبي الله موسى عليه السلام “يسأل الله أن يدنيه إلى بيت المقدس ولو رمية بحجر، وقد أجيب إلى ذلك”، لكنه بقي بعيدا عنها في صحراء سيناء. لكن الذين شوهوا رسالة موسى وحرفوها “توراة ـ تاريخا لملوكهم”، من اليهود الذين وصلوا مع يشوع إلى أطراف القدس أو نَسَلوا من بعده فيها، لم يمكّنوا حتى من تَمَثُّل أنفاس موسى الطيبة ويصلوا بها ومعها إلى القدس، وبقي غريبا عن حلمه. وذاق فيها عيسى المسيح عليه السلام الأمرَّين على يدي أولئك الذين آذوا الأنبياء وقتلوهم وصبوا حقدهم على الأمم. وبقيت القدس نظيفة منهم بعد هدريان، وتسامحَ قسطنطين ومن تلاه معهم قليلا، لكن ليس إلى الحد الذي يقوم لهم فيها هيكل و”سَنْهدريم” ووجود فعَّال من أي نوع.
عمر بن الخطاب يستلم مفتاح القدس
وحين واجهت قواتُ هرقل جيشَ المسلمين وحاصرها ذلك الجيش في القدس، استسلمت لـه فسَلَّمَت المدينةُ أمرها إليه، وكان ذلك عام 668 م، واستلم مفتاح القدس الخليفةُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بناء على طلب أهلها ممثلين بالبطريارك “صفرونيوس” الدمشقي الأصل. ودَخَل عُمر “رضي الله عنه” القدسَ، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، دخلها بروح الإسلام وسماحته وشموله قائلا لأهلها: “يا أهل إيلياء، لكم ما لنا وعليكم ما علينا”، دخَلَها عمرُ دخولا مغايرا كليا لدخول أتباع يشوع اليهودي إليها، ولدخول الفرس والرومان إليها، ولدخول غودفري أوف بويلون الصليبي عام ١٠٩٩ م إليها أيضا. لقد دمر اليهود المدينة وقتلوا الناس فيها، وفعل الفرس والسَّلوقيون والرومان شيئا مشابها تقريبا، وخاض غودفراي بدماء المسلمين هو وجنوده حتى وصلوا إلى كنيسة القيامة. أما عمر بن الخطاب، فقد دخلها بسلام مصحوبا بالأمن، ناهيا أهلَها عن السجود له؛ لأن ذلك لا يكون إلا لله تعالى وحده، مقدِّما إليهم عَهدَه الذي عرف: بـ ” العُهدة العمرية “، ونصُّها هو الآتي:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أعطى عبدُ الله: عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر مِلتّها؛ أنه لا تُسكَن كنائسهم ولا تُهدم، ولا ينقض منها ولا من حيّزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكْرَهون على دينهم، ولا يُضارّ أحدٌ منهم، ولا يسْكُن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهلُ المدائن، وعليهم أن يُخرِجوا منها الرومَ واللصوص. فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلّي بِيعَهَمْ وصُلُبهَم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعِهم وصلبِهم، حتى يبلغوا مأمنهم. ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قَعَدَ وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يُحصَد حصادُهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهدُ الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية.
شهد على ذلك:
خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب وحضر سنة خمس عشرة “.
دخل عمر بن الخطاب القدس ملبيا، وتفقَّد الأماكن المقدسة فوجد الصَّخرة مغطَّاة بالقمامة والأتربة، وهي قبلة اليهود، فنقل التراب والأوساخ عنها بطرف ردائه وقبائه، وفعل المسلمون مثلما فعل، وزار مع البطريرك صفرونيوس كنيسةَ القيامة، وكان فيها ساعةَ حان وقتُ الصلاة، فلم يُصل عمرٌ فيها مخافة أن يتَّخذ المسلمون من ذلك سابقة، أو يرى القادمون منهم أن لهم حقا فيها، ففرش رداء في العراء وصلّى مخالفا اختيار كعب الأحبار، الذي أشار عليه بأن يصلي والصخرة أمامه، فجعلها خلف ظهره مستقبلا الكعبة المُشرَّفة. وفي مكان صلاة عمر بن الخطاب أقيم المسجد العُمَرِي.
وعلى الرغم من أن أحد شروط تسليم القدس كان ألّا يدخلَها اليهود، فقد خلق المسلمون مُناخا جعل مسيحيي القدس يقبلون أن يدخلها اليهود ليمارسوا عباداتهم. واحترم العرب المسلمون حقوق الآخرين، ورفعوا شأن القدس بين المدن، واستعاد سكانُها الأصلييون من العرب شيئا من حيوية الحضور، وشعروا بأن مدينة الأجداد القديمة تعود إليها أصالتُها ويعود إليها انتماؤها، وقد أصبحت الآن موضع عناية واهتمام.
لم يكن في ذاكرة العائدين من العرب المسلمين إلى القدس تاريخُ المعاناة ولا تفصيلاتُ الممارسات التي تعرَّض لها آباؤهم وأجدادُهم من عرب المدينة المقدسة على أيدي الغزاة: اليهود والرومان وما بينهما من أقوام، ولم يدخلوها بعزة الجاهلية، ولا بروح الانتقام لبني قومهم من العموريين الكنعانيين بشرائحهم الاجتماعية وقبائلهم، وتسميات تلك القبائل وحقوقهم في ديارهم، وإنما دخلوها بتسامح الإسلام وبما أوعز به للعرب المتشبعين به. دخلوها بروح عميق من الإيمان جسَّد معنى التسامح وقيم الإخاء ومقومات العقيدة. وكان ابن الخطاب قد قال للمسلمين في الجابية وهو في طريقه إلى القدس: “أيها الناس؛ أصلحوا سرائرَكم تصلُح علانيتُكم، واعملوا لآخرتكم تُكفوا أمرَ دنياكم”. وحين رغب بعضهم إليه في اتخاذ مظهر يوحي بعزة المسلمين في نظر سواهم، وفي الروم وسواهم ممن يحتلون الشام، قال: “نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام فلا نطلب بغير الله بديلا “. وأكَّد لقادة جيش المسلمين حقائقَ أو ذكَّرهم بها من خلال الخطاب الذي قال فيه لأبي عبيدة بن الجراح؛ “إنكم كنتم أذلَّ الناس، وأحقرَ الناس، وأقلَّ الناس، فأعزكم الله بالإسلام؛ فمهما تطلبوا العز بغيره يُذلُّكم الله “.
عادت سلطة العرب إلى القدس، واستعادوا هويتها وانتماءها، لكن من خلال عز الإسلام ومفاهيمه وقيمه وشريعته. وأخال أن رميمَ عظام الأجداد في القدس، منذ ما قبل اليبوسيين إلى يوم دخلها عُمر، قد اهتز وانتعش وارتاح آنذاك، لأن السلام عاد إلى مدينة السلام، ولأن المظالم التي اكتسحت أرضها مع عنصريي يشوع بن نون وأتباعه وأضرابهم قد توقفت.