“ما بعد كورونا” بين نظريتي المؤامرة والعولمة
كيف يقرأ الخبراء والكتاب العرب عالم ما بعد كورونا؟ كيف سيواجه العالم وقواه الحية التداعيات الاقتصادية الكبرى التي خلفها الوباء؟ ما هو شكل العلاقات الدولية والإنسانية ما بعد كورونا؟
الكاتب والإعلامي الجزائري حسان زهار يناقش في هذا التقرير والذي ننشره على حلقتين، مع عدد من الجامعيين والكتاب الجزائريين، شكل ومستقبل العالم بعد فيروس كورونا.
إعادة النظر في برامج التحديث العسكري والسياسات الدفاعية
ويطرح شريف ادريس، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة الجزائر، رؤيتين متباينتين في الاستشراف لما بعد كورونا، الأولى ترى إمكانية لجم الليبرالية المتوحشة وكبحها، بحيث نتجه بعدها الى نوع من “الأخلقة”، خاصة في ما يتعلق بالجوانب البيئية والمالية والتبادلات التجارية. مع الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا والرقمنة، والذكاء الاصطناعي.
بينما تطرح الرؤية الثانية في ظل حالة الفتور في النمو الاقتصادي (مشاكل قطاع الطيران مثلا) إمكانية عودة الليبرالية المتوحشة، مع ظهور النزعة السيادية للدولة، وأن الرأسمال العالمي الذي يتحكم في الاقتصاد من الممكن أن يعود بقوة وبطريقة غير أخلاقية.
غير أن المؤكد بالنسبة لشريف ادريس هو الذهاب نحو الاعتماد على التكنولوجيا بشكل شبه كامل، خاصة ما يسمى بالجيل الخامس، الذي هو محل صراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، أين ستغزو التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي مجالات كثيرة من الحياة، كالطب، المعاملات التجارية، والتعليم عن بعد…الخ. بينما ستتجه الدول وخاصة الكبرى منها لإعادة النظر في سياساتها المالية والدفاعية، بسبب الاثار المالية المترتبة عن الجائحة، حيث سيتم تقليص حجم النفقات العسكرية، وحجم الجيوش، وإعادة النظر في برامج التحديث العسكري.
وحول الدور الصيني المرتقب ما بعد كورونا، والذي كثر الحديث حوله، يشير شريف ادريس، إلى أن النظرة الصينية لدورها في العلاقات الدولية تعود إلى آلاف السنين، فالصينيون يرون أن الهيمنة الغربية الراهنة هي هيمنة ظرفية، أما الهيمنة الثابتة والدائمة فهي صينية.
وأضاف: “إن الصين تعمل منذ عقود طويلة للوصول إلى الريادة العالمية، وبينما تمكنت الصين من الوصول الى المرتبة الثانية عالميا، إلا أنها تطمح لما هو أكبر من ذلك، مع ظهور الجائحة خاصة وان الصين اليوم تعتبر “مصنع العالم”، وتحديدا في مجالات تكنولوجيات الجيل الخامس، حيث تمتلك الصين شركيتين كبريين من بين الأربعة المسيطرة على هذا النوع من الصناعة عالميا”.
الهيمنة الأمريكية تستمر لـ 15 عاما المقبلة
ويستبعد شريف ادريس في حديثه لـ “عربي21″، أن تتفوق الصين على الولايات المتحدة في المنظور القصير، لأن لدى الصين عوامل هشاشة، خاصة فيما يتعلق بمستوى الدخل الفردي الصيني، الذي هو أقل بكثير من مستوى الدخل الفردي الأمريكي، مرجحا أن تستمر الريادة الأمريكية للعالم لحوالي 15 سنة قادمة، أما بعد ذلك فكل الاحتمالات واردة.
كما يستبعد أن يذهب هذا الصراع الصيني ـ الأمريكي إلى مرحلة “اللاعودة”، أو الدخول في معادلة صفرية، فلا الصين ولا أمريكا لهما مصلحة في أن يستمر الصراع أو يتطور، فالادارة الأمريكية بقيادة ترامب تستخدم الورقة الصينية كبعبع لاعتبارات انتخابية، والصينيون يدركون هذا جيدا، ولذلك فإن البراغماتية والنفعية والمصالح سوف تتغلب على الطرفين، لأن كلا الطرفين لهما مصلحة في التعاون.
يقول شريف ادريس: “توجد أكثر من ألف مليار دولار كودائع صينية في الولايات المتحدة، ولا أتوقع أن الإدراة الأمريكية سوف تستغني عن هذه الأموال، كما أن هناك استثمارات كبيرة أمريكية في الصين، علاوة على أن حجم التبادلات بينهما تتعدى 200 مليار دولار، ووجود شركات كبرى تتحكم في دوائر صنع القرار في أمريكا، وبالتالي هذا يؤكد أن القول بالذهاب نحو مواجهة كبرى أو على الأقل نحو حرب باردة بين القوتين مستبعد أيضا، ذلك أن هنالك تشابك في العلاقات التجارية والاقتصادية.. وأن جل ما في الأمر هو إعادة ترتيب أوراق الخارطة السياسية وخارطة النفوذ بين أمريكا والصين، وظهور حالة من التفاهم الضمني بين القوتين العظميين، في طريقة العمل بحيث لا تقوم أي دولة منهما بإلحاق الضرر بالأخرى، بما يؤكد أن الصراع سيكون خفيا وأن المواجهة المباشرة مستبعدة تماما.
توجد أكثر من ألف مليار دولار كودائع صينية في الولايات المتحدة، ولا أتوقع أن الإدراة الأمريكية سوف تستغني عن هذه الأموال، كما أن هناك استثمارات كبيرة أمريكية في الصين، علاوة على أن حجم التبادلات بينهما تتعدى 200 مليار دولار،
ويخلص شريف ادريس إلى أن الأزمة تعتبر اختبارا حقيقيا لقياس مناعة الدول، أمنيا واقتصاديا وسياسيا وحتى المناعة المجتمعية والقيمية، مشيرا إلى أن الجزائر مثلا كجزء من الفضاء الحضاري العربي تواجه تحديات كبيرة خاصة مع تراجع أسعار البترول، كما تعتبر اختبارا حقيقيا للقيادة السياسية الجديدة في الجزائر حول مدى قدرتها وتحكمها في إدراة هذه الأزمة.. ومع ذلك فالأزمة قد تكون أيضا فرصة لكثير من الدول العربية وعلى رأسها الجزائر، لإعادة النظر في طبيعة التوجه الريعي للاقتصاد عبر فك الارتباط بالمحروقات، وتثمين التكنولوجيات والذهاب نحو الرقمنة في الاقتصاد، مع وضرورة تثمين المورد البشري ودور الجامعات، والذهاب الى اقتصاد المعرفة، وإعادة النظر في نمط العلاقات بين الحكام والمحكومين، خاصة الابتعاد عن النزعة التسلطية في عدد من الدول العربية، والذهاب الى نوع من الاصلاحات السياسية لتحقيق المواطنة الحقيقية.
الرقمنة وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي
ويلخص الخبير التكنولوجي يزيد أقدال لـ “عربي21″، رؤيته لما بعد كورونا في الجانب التكنولوجي منه في مجالات ستة:
أولا ـ تسريع التحول الرقمي في الشركات والقطاعات الحكومية، وهو التحول الذي يختلف من بلد إلى آخر، وحجم ودرجة التقدم فيه، وقد كشفت أزمة كورونا أن الشركات التي استطاعت الاستمرار هي الشركات التي كانت نشاطاتها في درجة متقدمة من الرقمنة، وكل من لم يكن مهيئا ومع اضطرار العمال للبقاء في منازلهم، وانقطاع الصلة المباشرة بالعملاء، بانت عورات الشركات التي كانت متأخرة.
وينطبق الأمر نفسه على القطاعات الحكومية والخدمات الحكومية الإلكترونية، باختلاف الدول، والذي سيشهد بدوره تطورا وتسارعا لتوفير كل الخدمات الحكومية عبر الأنترنت، وكذا الخدمات المالية، بحيث يصبح تنقل المواطنين نحو الإدارات أمرا نادرا لأن كل الخدمات ستكون متوفرة عن بعد.
ثانيا ـ تسريع خدمات الطب عن بعد واستعمال الانترنت وتكنولوجبا الذكاء الإصطناعي في المجال الطبي، وخدمات التعامل مع الأطباء عن بعد، وكذا الرقمنة الكاملة للقطاع الصحي وملف المواطنين الصحي من الميلاد حتى الوفاة وربطها بمعطيات القطاعات الأخرى واستعمال تقنيات البيانات الضخمة لاتخاذ القرارات واستشراف المستقبل بالنسبة للقطاع الصحي، كما يتوقع ان يعاد النظر في تكوين الأطباء في المستقبل بالنظر للتطورات التكنولوجية المقبلة.
ثالثا ـ توسيع التجارة الإلكترونية لكل أنواع التجارة حتى التي كانت بعيدة نسبيا، وكذا الخدمات المرتبطة بها كالتوصيل وحتى المنصات المخصصة لعرض السلع ستتدعم بتكنولوجيات خاصة كالواقع المعزز والذكاء الإصطناعي حتى يحاكي تجربة الشراء الحقيقية عبر المنصة، ويرتبط بهذا أيضا تطوير كل الخدمات المالية المتصلة ووسائل الدفع الممكنة.
العمل والتعليم والاعلام .. من البيت / عن بعد
رابعا ـ العمل عن بعد: كشفت أزمة كورونا أن المقاومة التي كان يلقاها مبدأ العمل من البيت كانت ثقافية أكثر منها ارتباطا بالفعالية في العمل، بل وجد أن الكثير من العمال زادت إنتاجيتهم بفعل تخلصهم من الوقت الضائع في المواصلات والضغط النفسي المرتبط به، وقد تتغير قوانين العمل قريبا ليعطى العمال الذين يناسبهم العمل عن بعد الخيار في العمل من المنزل أو العمل في المكتب، نفس الشييء بالنسبة للإجتماعيات عن بعد، حيث حطم تطبيق زوم كل الأرقام القياسية في الإستعمال، مع كفاءة عالية.
خامسا ـ التعليم عن بعد: حيث كشفت الأزمة عن الضرورة القصوى لإعادة النظر في نظم التعليم الحضوري الكامل، وتعزيزه بمنصات التعليم عن بعد وتحبين مناهج التعليم في هذا الإتجاه،. وسنرى كثيرا من المشاريع الحكومية والخاصة في هذا الإتجاه.
العمل عن بعد: كشفت أزمة كورونا أن المقاومة التي كان يلقاها مبدأ العمل من البيت كانت ثقافية أكثر منها ارتباطا بالفعالية في العمل، بل وجد أن الكثير من العمال زادت إنتاجيتهم بفعل تخلصهم من الوقت الضائع في المواصلات والضغط النفسي المرتبط به،
سادسا ـ قطاع المعارض والمؤتمرات ومعارض الدعاية للمنتجات، السينما والمسرح والأحداث الفنية: هذا القطاع تأثر بشكل كبير ولن يتعافى بشكل سريع وستفلس الكثير من الشركات العاملة في هذا المجال، البديل الوحيد المتاح حاليا هو المؤتمرات عن بعد عن طريق المنصات الرقمية، وقد اختارت شركة مثل مايكروسوفت أن تكون كل مؤتمراتها وأحداثها الترويجية عبر المنصات الرقمية، ولكن بالتأكيد ليست كل القطاعات مهيئة لهذا، وقد نشهد تحولات في نموذج الأعمال لهذا النوع من النشاطات للتأقلم مع الوضع الجديد.
ويخلص الخبير التكنولوجي يزيد أقدال إلى أن قطاع الإعلام هو هنا تحصيل حاصل، فالتحاق ملايين الأشخاص الجدد بعالم الأنترنت بفعل الحجر يفرض على الصحف الورقية التحول إلى المجال الرقمي خصوصا عندما لا تكون المشاكل البدائية مثل طرق الدفع أو الإطار القانوني، وأيضا طرق عمل الصحفيين ووسائل وطرق عملهم التي ستتأقلم مع الوضع الجديد.
أين العرب من كل هذا؟
هذا السؤال المحير الذي يحاصرنا دوما، وما نلبث أن نتركه على الرف تجنبا للمزيد من الحرج، يطرح بنفسه أسئلته هل يمكن لجيل عربي جديد أن يولد في الأثناء، يجيد إدارة مرحلة سقوط الدولة بأقل الخسائر، وإدارة البلد خارج الأطر التقليدية؟ ثم يكون عنوانا لمرحلة ما بعد الكورونا، أو ما بعد النكبة، أو ما بعد المابعد، بحيث يمكن تسميتها مرحلة بناء الدولة العربية الجديدة؟
ولأننا نحن العرب، لا نهتم كثيرا للفروق الجوهرية بين الدراسات المستقبلية وبين الغيبيات و”التنجيم”، يبدو أننا سنبقى دائما على الهامش، خاصة منها تلك الدول المبتلاة بنعمة النفط التي تحولت إلى وبال عليها (السعودية، العراق، الجزائر، ليبيا…)، والتي بنت ميزانياتها على سعر مرجعي في حدود 60 إلى 80 دولارا للبرميل، ثم تجد أن سعره في حدود 20 دولارا (ولعله سيباع هو أيضا بالسالب مثل نظيره الأمريكي)، ماذا تراها ستفعل؟ هل يكفي التخلي عن مشروع بناء مدينة مجنونة للأحلام الوردية والحمراء (نيوم)، بمئات المليارات الدولارات، أم يكفي التوقف عن “كراء” منظومة الباتريوت لحماية قصور ملكية مبنية على أرضية من رمال؟
يحتاج الأمر الى وقفة عربية مع الذات، وحين نقول أن الفيروس جاءنا نحن العرب خصيصا لكي نتوقف لحظة مع الذات، فإننا لا نبالغ، وهاهي الصين “الشيوعية”، وألمانيا المسيحية وتركيا المسلمة، نماذج قوية مختلفة الديانات والنظم السياسية، تنتصر على الوباء بفارق “الكفاءة”، وفارق الانتصار لراية العلم والإنجاز، بعيدا عن “العقلية الميلشياوية” التي تقاوم منطق التاريخ بتمويل الثورات المضادة.. الكفاءة وحدها المنبثقة عن العلم والإنجاز هو ما يشكل الفارق غدا، وسنكون أسعد شعوب المعمورة، لو أدركنا أن الجواب الوحيد الصحيح لسؤال (الما بعد)، هو أن نستوعب أخطاء (الما قبل)، لتكون رصيد خيارات الصحوة والبناء.
المصدر: عربي 21