تونس بين خياري الديمقراطية الاجتماعية أو الانفجار الاجتماعي
الكتاب: سوسيولوجيا الهامش في زمن الكورونا الخوف ـ الهشاشة ـ الانتظارات
الكاتب: ماهر حنين
الناشر: المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، تونس.
الطبعة الأولى نيسان (أبريل) 2020
(104 صفحة من القطع الكبير).
كانت الثورة التونسية نتيجة طبيعية لوصول الأنموذج التنموي السابق إلى مأزقه المحتوم بشهادة جميع المؤسسات الدولية الليبرالية من بنك دولي، وصندوق نقد دولي، ووكالات وتصنيف ومنتديات عالمية، أو بصيغة مقتضبة كامل حارسي المعبد الليبرالي الجديد المسيطر حاليا على الاقتصاد الدولي، وعلى الفكر الليبرالي الدوغمائي. ولا أدل على ذلك التقرير الذي أصدره البنك الدولي المخصص لتونس في عام 2014، والذي أعلن فيه عن موت النموذج السابق وضرورة إيجاد نموذج بديل.
فقد كانت للأزمة الاقتصادية والمالية العالمية لسنة 2008 ـ 2009، تداعيات خطيرة على الاقتصاد التونسي، لجهة أنها كشفت بصورة جلية مأزق نمط التنمية المتبع في تونس. ومن خصائص هذه الرأسمالية الطفيلية التونسية، أنها لم تبن اقتصادًا وطنيًا منتجًا، بل إن كل أنشطتها الاقتصادية تركزت، في مجالات معينة تقع على هامش العملية الإنتاجية، مثل قطاع السياحة، وعمليات الوساطة والسمسرة، والمقاولات والمضاربات العقارية، إضافة إلى الحصول على التوكيلات التجارية، واحتكار منافذ توزيع السلع المستوردة، وتكريس التبعية الاقتصادية والمالية والتجارية الوثيقة تجاه الشركات الرأسمالية الكبرى، والاندماج في نطاق اقتصاد العولمة الليبرالية الأمريكية المتوحشة، التي تقود إلى تنمية رأسمالية الصفقات، وتفكيك أواصر عمليات التصنيع المحلي واتجاه النشاط الرأسمالي في مجالات الاستيراد والتصدير والنقل والمواصلات وغيرها من الخدمات المعاونة.
معظم فئات الشعب التونسي، ومنظمات المجتمع المدني، ترفع شعار محاربة الفساد الذي تجلى في هذه الأزمة في ممارسات الاحتكار والمضاربة والبحث عن الإثراء السريع، فهي تعكس حالة وعي عالية تخترق المجتمع التحتي وتتقاطع مع منظمات مدنية وحقوقية مشهرة ومنددة بالفساد
أجمع المحللون الملمون بالشأن التونسي أن تركيبة الحكومات السابقة التي تشكلت بعد عام 2011 ولغاية حكومة إلياس الفخفاخ الحالية، لا تمثل الخيار الأمثل لمواجهة تحديات المرحلة الحالية، ولاسيما في شقها المتعلق بحل المسألة الاجتماعية، وفي القلب منها البطالة في الولايات الفقيرة والمهمشة. فكل الحكومات لم تطرح في برنامجها القطع مع منوال التنمية القديم القائم على المزاوجة بين رأس المال الأجنبي مع دولة ما بعد الاستقلال والذي قاد إلى نمو الرأسمالية الطفيلية السائدة في تونس، التي تعيش الآن أزمة هيكلية كبيرة، نتيجة إندماجها، وبدرجة كبيرة، بالرأسمالية الأم في أوروبا وأميركا.
التضحية بالتنمية لفائدة النمو هو مربط الفرس في النقد الذي يبلوره عبد الجليل البدوي لمنوال التنمية السابق والمتواصل، فقد تم التخلي عن استراتيجية استبدال الواردات بالصناعات المحلية التي تم إتباعها منذ الاستقلال والتخلي أيضاً عن السياسات القطاعية والأقطاب التنموية الإقليمية وعن كلّ استراتيجية تنموية والمراهنة وفقاً للعقيدة الليبرالية الجديدة على آليات السوق والانخراط في العولمة، وهو انخراط تحقق على مرحلتين الإعلان في 1986 ثم التجسيد الفعلي سنة 1995. وكلّ تقييم جدي لهذا الاندماج في العولمة عبر بوابة الشراكة مع الاتحاد الأوروبي تشير إلى مستفيدين رئيسيين: الاتحاد الأوروبي والأوليغارشية المالية التي كانت مرتبطة بمنظومة الفساد وإلى متضرر رئيسي هو الشعب التونسي وخاصة فئاته الهشة التي انتفضت تريد التغيير.
معظم فئات الشعب التونسي، ومنظمات المجتمع المدني، ترفع شعار محاربة الفساد الذي تجلى في هذه الأزمة في ممارسات الاحتكار والمضاربة والبحث عن الإثراء السريع، فهي تعكس حالة وعي عالية تخترق المجتمع التحتي وتتقاطع مع منظمات مدنية وحقوقية مشهرة ومنددة بالفساد وبانخراط إعلامي صريح كل ذلك في تناغم وتصادي مع الهيئة العليا لمقاومة الفساد والمسؤولين الحكوميين وفي أعلى هرم الدولة وفي خطاب رئيس الجمهورية.
في السياق التونسي توصلت الدولة التونسية إلى قيادة تحديث فوقي قادته الشريحة الثورية من الطبقة الوسطى ذات التوجه العلماني، ووضعت آليات الإدماج كما كانت دولة مهنوية، تقوم على تمثيل خصوصي للجماعات المهنية وللحرف والمصالح الكوربوراتية، لكن هذا الخيار طبع بسمتين تهميش الريف (اقتصاديا، رمزيا، وسياسيا)، وبطريقة لا تشاركية، وقد ظل هذا الإقصاء المزدوج يعتمل داخل المجتمع وانتهى بالدّولة إلى التسلطية والعجز عن استيعاب الغضب والتمرّد الاجتماعي الذي انتهى بإسقاط رأس النظام مع بداية عام 2011.
يقول الباحث ماهر حنين: “انقلاب الأوضاع صار جليا منذ 2011 فمسار الانتقال الديمقراطي كاد يكتفي مرة أخرى بإدماج تاريخي صدامي ثم توافقي للإسلامين في الحقل السياسي واستعصى الأمر على إدماج الهوامش والفئات الاجتماعية الهشة وغير المعترف بها إما بسبب خيارات اقتصادية واجتماعية لا تزال ليبرالية أو بسبب ضعف التمثيل المدني والسياسي لهذا الهامش نفسه.
ما يرشح اليوم ونحن نعيش أزمة الكورونا في سياق ديمقراطي تعددي حرّ ثلاث محددات جديدة:
أولاً ـ تحوّل العلاقة التي وصّفها الأستاذ الجامعي حمادي الرديسي في 2006 بين الدولة والمجتمع إلى علاقة بين دولة ضعيفة ومجتمع قوي أو يقظ، ضعف الدولة المقصود به عجز ذراعها اليسرى بتعبير بورديو أي ذراعها الاجتماعي بعد عقود من التهرئة لقدراتها الاجتماعية ومن التنظير للتقشف وهو ما يعني أن الدولة رغم تمثيلها الديمقراطي للإرادة العامة عبر الانتخابات الحرة والنزيهة لا تملك سياسات اجتماعية واقتصادية عادلة وقادرة على تحقيق التنمية المرتقبة التحوّل من دولة تسلطية قوية إلى دولة القانون مكسب تاريخي للتونسيين بعد الثورة لكن هو بالنسبة لنا نصف الطريق باتجاه التصدي لتحديات العدالة الاجتماعية.
ثانياً ـ جاهزية المجتمع المهيكل وريث عملية الإدماج الأولي للدولة والمستفيد من المناخ الديمقراطي هناك ضرب من الالتقاء التاريخي بين المنتج التعليمي لمدرسة الجمهورية في قطاعات الصحة والإدارة والنّخب المنخرطة في العمل المدني والنّقابات والمنّظمات أي الفئات المدمجة بفضل العمل وتقسيم العمل وهيكلة الحقول الاجتماعية والمتحررة في الفضاء العمومي الديمقراطي اليوم نقف مرة أخرى على درجة من الهيكلة والتنظيم والفاعلية لهذا المجتمع الحر والمستقل وظيفياً عن الدولة وعن حزب حاكم قوي أو عن فضاء ديني مهيمن تونس اليوم يحق لها أن تفخر بحيوية هذا المجتمع اليوم وهو يبتكر عشرات الحلول للتضامن والفعل.
انقلاب الأوضاع صار جليا منذ 2011 فمسار الانتقال الديمقراطي كاد يكتفي مرة أخرى بإدماج تاريخي صدامي ثم توافقي للإسلامين في الحقل السياسي واستعصى الأمر على إدماج الهوامش والفئات الاجتماعية الهشة وغير المعترف بها
ثالثاً ـ المجتمعات الموازية والمهمشة والمغيبة (الريف، الأحياء الشعبية، الفئات الهشة، الشباب المعطّل) وهي موضوع اهتمامنا تسجل حضورا فريداً هذه المرّة هي أولا تدخل الفضاء العمومي بيولوجيا أي بأجساد عارية كغيرها فالفيروس منحها حق المساواة لأنها تعيش وتتحرك وناقلة مفترضة للفيروس. لسنا اليوم في الخطاب المهيمن أمام عملية إنكار لوجود هذه الهوامش والتي كانت تنعت سابقاً في بعض المحطات نعوتاً سلبية فيها الكثير من الإهانة والاحتقار (الانحراف، الجهل، التخلف، العنف…) وهي كلّ الوصمات السلبية الملحقة بسكان الضّواحي والحياء في المدن الأوروبية الكبرى بل يتم في بعض الدراسات الرّبط بين ظواهر التطرف العنيف واللامدنية وغياب روح المواطنة والهجرة الغير النظامية و”عقلية” هذه الفئات وهو موقف “ماهوي” لا تاريخي يعيد انتاج آليات القهر المعنوي والنفسي التي تحدث عنها قانون على يد قوي تسلطية داخلية”(ص 80 من الكتاب).
مع استفحال وباء الكورونا، تم الاعتراف بهذا الهامش أولا من قبل الدولة التونسية، ومن قبل المجتمع الكلي والمجتمع المهيكل أو المدمج على غاية من الأهمية لأنه طرح بقوة مطلب الاندماج المستمر لهذه الهوامش وبقدر ما وقفنا على علامات مواطنة سلبية ولا مبالاة أحياناً في خطاب الفاعلين في الفضاء السوسيولوجي للهامش فأننا نرصد تبلور وعي متنامي بالمواطنة الاجتماعية (الحقوق الاجتماعية) وجاهزية تنظيمية أفضل عبر الحملات وجمعيات القرب والجسور التي يقيمها الهامش مع المجتمع المدني المنظم خاصة بفضل تحرير الإعلام وضمان حق التنظيم وزوال الخوف من الاستبداد.
الحقوق الاقتصادية والاجتماعية جزء من فلسفة حقوق الإنسان
لقد دأبنا على امتداد سنوات المعارضة السياسية على ربط غياب العدالة التوزيعية بالاستبداد واليوم نواجه مساعي لربط فكرة غياب العدالة بالديمقراطية أي إعفاء الدولة من كلّ مسؤولية اجتماعية وتخليها عن أي دور رقابي تعديلي على الاقتصاد والمجتمع.
للرّد على هذه العقيدة الليبرالية الجديدة نعود إلى قاعدة فلسفية وقيمية مرجعية للنظريات المتبنيّة لفكرة العدالة الاجتماعية كلّ حديث عن حقوق الإنسان بفصلها عن حقوق المواطن هو تجريد لها وفصل بين الإنسان الفعلي والإنسان المجرّد.
الإنسان الفعلي اليوم في تونس بمعنى المواطن كما يعرّفه دستور الثورة يفترض أن تضمن له الدّولة الحق في الماء والصحة والتعليم والتنمية الجهوية العادلة وتحمي ثرواته الطبيعة وتضمن التنمية المستدامة لأبنائه من علامات الصّحوة المرتبطة بهذه المواطنة الاجتماعية هو جهد الرّبط في مرحلة ما بعد الاستبداد بين النضال النقابي والاجتماعي والسياسي من أجل العدالة الاجتماعية وهو ما تهتم به تحوّلات سوسيولوجيا التنظيمات ونضال الحركات الاحتجاجية تهتم به أيضاً سوسيولوجيا الفعل الجماعي.
التجلي القوي اليوم للفقراء وذوي الدّخل المحدود والفئات الهشة في الفضاء العمومي بل اقتحامهم له مجدداً يعيد إلى وعينا الجماعي مهمة الاضطلاع بالفريضة الغائبة وهي فريضة العدالة المجتمعية في مسار ثورة الحرية والكرامة التونسية ويضع أمام أعيننا وفي متناول فعلنا السياسي إمكانية الربط بين نظرية العدالة الاجتماعية والقناعات الشعبية الواسعة حولها. هبة الدّيمقراطية أنها تمكننا أن نستمر في طرح مسألة العدل الاجتماعي في كنف الحرية وبإصرار.
عودة المسألة الاجتماعية في مواجهة دعاة الإصلاح الهيكلي والخصخصة
الأزمة الاجتماعية الآن في تونس تكمن في سوء توزيع الثروة ومنافع التنمية، وتفاقم البطالة والفقر والفروق الاجتماعيّة،والغياب الشامل لمحاربة الفساد، لدرجة أنّ الكثير من الشبان يموتون في قوارب بحثاً عن هجرةٍ إلى الضفة الشمالية للمتوسط. إضافة إلى أن الفلاحين قَحُلَت أرضهم بسبب الجفاف، فضلاً عن تراجع أهمّ إيراد للطبقات الفقيرة وهو تحويلات العمّال المهاجرين.
والمعروف أن أكثر ما ميّز تونس عن كثير من مثيلاتها في العالم العربي، ذلك الترابط بين النضالات من أجل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، والنضالات المتعلقة بالحريات الديموقراطية من أجل بناء دولة القانون وإرساء مجتمع مدني حديث وعادل.
يقول الباحث ماهر حنين: “دخلنا في تونس بعد انتخابات 2014 منعرجا ثانيا للصّراع الاجتماعي والفكري حول مفهوم ودلالات الإصلاح انحصرت المرحلة اولى بين 2011 و 2014 حول معنى الإصلاح الديني والسياسي بما يضمن خروجنا من نفق الدّولة الدينية وهو جدل أعاد إلى الساحة الفكرية مواجهة بين مقاربات تعود إلى القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين بين المحافظين والليبراليين تضافر عدة عوامل وضع حداً (غير نهائي عند البعض) للحرب الأهلية الكامنة بين “التكفيريين” والعلمانيين” وقبل الجميع أن تكون الجمهورية الثانية جمهورية ديمقراطية لا تقصي أحداً.المرحلة الثانية حول معنى الإصلاح وتدور منذ 2014 وإلى اليوم حول الاقتصاد والمجتمع والثروة إنتاجاً وتوزيعا وهو صراع لم يعد يرسم خطوط الفصل على أساس أيديولوجي علماني ـ محافظ بل على أساس ليبرالي ـ يساري (اجتماعي).
سقوط الاستبداد وصعود نخب سياسية جديدة للمشهد لا يعني تبخر المسألة الاجتماعية بل يعني قابلية الهشاشة الاجتماعية وتراجع الدّولة للاستتار السياسي في مسار مضاد للبناء الديمقراطي المنشود بعد الثورة
من هم هؤلاء الذين يسمّون أنفسهم الاصلاحيون الجدد؟ هم بحسب ميشال كامو نخب تكنوقراط ورجال أعمال ومسيرو مؤسسات مرتبطون بالفضاء الاقتصادي المتوسطي كفضاء انفتاح على الاقتصاد المعولم ويعملون على ما يسميه كامو “تحالف خطاب” يدور حول الليبرالية الاقتصادية هذه النخب التونسية التي تسم نفسها بالإصلاحية (المواكبة للعصر والمنفتحة والذكية والناجحة) وهي في نظر الباحث الفرنسي مصنفة قياساً إلى حججها ومصالحها وممارساتها وشبكاتها العلائقية باعتبارها تتقاسم نفس الرؤية ونفس خطاب الإصلاحات الذي تحمله المنظمات المالية المموّلة (ص 87 من الكتاب).
هذا التحالف حول خطاب الإصلاحات في تونس والتي كانت تعني التقدم في الخصخصة الرأسمالية، استمرار سياسات التقشف، مراجعة سياسات الدّعم وتفكيك مرتكزات دولة الرعاية الاجتماعية وغض الطرف عن صحة وتعليم بسرعتين واحدة للميسورين وأخرى للفقراء والمحدودي الدّخل هذه “العقيدة” التي حبكها تحالف الخاب المهيمن مرشحة للارتباك بالعودة إلى عاملين الأول عالمي يتمثل في صعود الأصوات داخل الحقل الاقتصادي والسياسي لوقف جنون العولمة الرأسمالية فالليبراليين المساواتيين والكينيزين الجدد واليساريين يعودون للدفاع عن ضرورة مراجعة فكرة الانسحاب الكامل للدولة من العملية الاقتصادية العامل الثاني محلي هو فرصة بناء “تحاف خطاب” مضادّ عنوانه الديمقراطية الحقيقية أي الديمقراطية المرتبطة بالعدالة الاجتماعية.
المدخل الحقيقي لفهم ضرورة طرح المسألة الاجتماعية، مسألة مرتبطة بالتغيير السياسي يضعه الباحث تحت عنوان “الطبيعة تأبي الفراغ” . لقد نجح الاستبداد بتواطؤ جزء من النخب في طمس الغضب الاجتماعي واحتوائه وفي تحويل المسألة الاجتماعية إلى مادة دعاية إعلامية للرّعاية التي كان يوفرها النظام الفردي للفئات الهشة (موائد الإفطار، صندوق 26 ـ 26) من جهة وشبكة العلاقات التي كان ينسجها التجمع وسلك العمد والمعتمدين والولاة ورؤساء البلديات كانت وسائل النظام التسلطي لفصل المسألة الاجتماعية عن المسألة الديمقراطية المرتبطة بالحريات مما ساعد النظام السابق على تقديم النخب المطالبة بالإصلاح والحريات والحقوق كنخب معزولة، لم يصمد هذا النموذج التحكمي في المسألة الاجتماعية التي انتهت بالانفجار في وجه السلطة في 2008 بالحوض المنجمي في تنبيه أول ثم نهائياً في 2010 وتنتهي بوضع حدّ له.
سقوط الاستبداد وصعود نخب سياسية جديدة للمشهد لا يعني تبخر المسألة الاجتماعية بل يعني قابلية الهشاشة الاجتماعية وتراجع الدّولة للاستتار السياسي في مسار مضاد للبناء الديمقراطي المنشود بعد الثورة، وهو تراجع اقترن بدخول المجموعات السلفية مع دورها في الحقل الدّعوي والتعليمي إلى الفضاء الاقتصادي والتجاري في مجال التجارة في الملابس الجديدة والمستعملة (الفريب) والنقل العمومي والمحلات التجارية الصغيرة.. هذا النشاط التجاري الموازي والغير مهيكل أحياناً هو في نظر الباحث معتز الفطناسي مدخل لبناء قاعدة اقتصادية لهذ التيارات السلفية لأن هذه المشاريع مربحة وتوفر لأصحابها والملتحقين بها المساعدة المالية وحتى الحرفاء والمستهلكين وساعد الجماعات السلفية على احتواء الأشخاص من كلّ الفئات بما في ذلك المنحرفين وأصحاب السوابق العدلية وحسن توظيفهم داخل مجالات التجارة مع العمل على التغيير المرحلي لتصرفاتهم وسلوكهم وقناعاتهم حتى تتقارب مع سلوكيات الجماعية العقدية.