“هنا القدس”.. ثاني إذاعة “عربية” بعد “هنا القاهرة”
علي سعادة
استقطبت في زمن قصير نخبة من المثقفين والكتاب والشعراء والفنانين العرب، وبشكل خاص في بلاد الشام ومصر.
ومع بدايات البث انتشر المذياع (الراديو) في كل البيوت للاستماع للأحداث السياسية والأخبار الجارية في فلسطين في تلك الفترة، وعند افتتاح “دار الإذاعة” كان عدد أجهزة “الراديو” في فلسطين ما يقرب من 21 ألف “راديو”.
كانت مصر أول دولة عربية تقوم بالبث الإذاعي عام 1934، تبعتها فلسطين التي شهدت تأسيس دار الإذاعة الفلسطينية “هنا القدس”.
“إذاعة القدس” كان الإسم الرسمي للإذاعة التابعة لـ”الانتداب البريطاني” على فلسطين والتي بثت بثلاث لغات: العربية والإنكليزية والعبرية في الفترة ما بين عامي 1936 و 1948 والتي لاقت مساعدة فنية من الإذاعة البريطانية “بي بي سي”.
وتذكر مراجع أن أهم الأهداف التي دعت “حكومة الانتداب” إلى تأسيس دار الإذاعة هو شعورها بكراهية العرب لها، كما أرادت صرف الجماهير الفلسطينية والعربية عن المطالبة بإيقاف بيع الأراضي، ومنع الهجرة اليهودية، والحفاظ على عروبة فلسطين، وإعاقة الجهود العربية للدفاع عن فلسطين، وإظهار اليهود كشعب متحضر وجزء من المنطقة، وتطبيق سياسة “فرق تسد” في صفوف الفلسطينيين، بحسب نصري الجوزي صاحب كتاب “تاريخ الإذاعة الفلسطينية”.
جرى حفل افتتاح دار “الإذاعة الفلسطينية” في مقرها القديم وكانت تشغل غرفتين من فندق “بالاس” الواقع في شارع “مأمن الله” في القدس، بدعوة من “حكومة الانتداب” وحضر الحفل عدد كبير من وجهاء وأعيان القدس وباقي المدن الفلسطينية، وعدد من كبار الفنانين والموسيقيين العرب، وكان أول صوت عربي يصدح في هذه الإذاعة على الأثير هو صوت شاعر فلسطين إبراهيم طوقان.
كان القسم العربي في “هنا القدس” رائدا في استقطاب الكثيرين من أدباء وشعراء وفنانين عرب إضافة إلى زملائهم الفلسطينيين الذين شكلوا نواة فنية وثقافية راقية. كان من بينهم: محمد كرد علي رئيس المجمع العلمي العربي في دمشق، خليل مردم، شفيق جبري، سامي الكيالي، فؤاد الخطيب، بشارة الخوري (الأخطل الصغير)، طه الراوي، عبد الوهاب عزام، خليل تقي الدين، نسيم يزبك، حليم دموس، عباس محمود العقاد، عبد القادر المازني، الشيخ عبد العزيز البشري، والدكتور محمد عوض.
ولم يعجب سلطات “الانتداب” الدور الوطني الذي لعبه الشاعر طوقان في نشر أخبار الثورة والتحذير من مخططات تهويد الأراضي الفلسطينية فقامت بإقصاء طوقان عن عمله في إدارة القسم العربي عام 1940، بعد أن حول الإذاعة إلى منبر للوطنية والحماسة القومية.
إذ بعد نحو أربعة أشهر من افتتاح الإذاعة اندلعت “الثورة الفلسطينية الكبرى”، وكان للإذاعة مهمة كبرى في نقل الأخبار والأحداث الجارية بروح وطنية وبغير رغبة “الانتداب”، من خلال برنامج “يوميات ثورة 36″، فتقدمت الحركة الصهيونية بشكوى للمندوب “السامي” البريطاني أكثر من مرة، وحرضت على القسم العربي في الإذاعة بسبب الروح القومية الرافضة لوجود الاستعمار البريطاني وممارسات الحركة الصهيونية، مما جعل البريطانيين يفكرون في التخلص من طوقان واستبداله بشخص آخر، في الوقت نفسه كانت القسم العبري يبدأ برامجه بالقول “هنا أرض إسرائيل” مما أدى إلى غضب عارم لدى الفلسطينيين.
وإثر إقالة طوقان عينت سلطات “الانتداب” عجاج نويهض صاحب مجلة “العرب” التي كانت تصدر بالقدس وأحد مؤسسي حزب “الاستقلال” الفلسطيني رئيسا للقسم العربي بعد أن اشترط على عدم التدخل بأمور القسم، وبعده تولي عزمي النشاشيبي، إدارة القسم العربي وهو من أدخل الإذاعات المنقولة لنقل الاحتفالات الدينية على الهواء مباشرة من الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية.
وقد ساهم عدد من الأدباء والكتاب والصحفيين المعروفين في تقدم القسم العربي وتطوره أمثال: عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، عصام حماد، محمد أديب العامري، سعيد العيسى، موسى الدجاني، راجي صهيون، عبد الحميد ياسين، عقيل هاشم، داوود الدجاني، وخليل السكاكيني الأديب ورائد التربية الحديثة في الوطن العربي، وغيرهم.
لم تكن محطة “الإذاعة الفلسطينية” لمصلحة الفلسطينيين بشكل خاص، بحسب الكثير من الدراسات والتحليلات والكتب المنشورة بل كانت لمصلحة الصهاينة والإنجليز أيضا، وقد هاجمت الصحف العربية في القدس “الإذاعة” لأنها كانت تبث بلغة غريبة عن المنطقة وهي العبرية، وقد استقال عدد من الموظفين من “الإذاعة الفلسطينية” بسبب ما كان يطلق عليه المذيع باللغة العبرية “أرض إسرائيل” بدلا من فلسطين وكلمة “أورشليم” بدلا من القدس بوصف المحطة فلسطينية عربية.
وحاول الإنجليز تعيين موظفين لكل قسم ممن يجيدون اللغة الإنجليزية ولم يمارسوا السياسة، لكن هؤلاء الموظفين لم يستجيبوا لأغراض “الانتداب” البريطاني، بل كانت محطة الإذاعة تبث روح الوعي لدى العرب وتنبههم من الأخطار المحدقة بهم من الإنجليز والصهاينة.
وفي تلك الفترة كانت تبث إذاعة “منظمة المجاهدين الفلسطينيين” وكانت تبث بشكل سري، وإذاعة “الشرق الأدنى” التي كانت الإذاعة الدولية التي تبث من يافا عام 1942.
وتعرضت دار “الإذاعة الفلسطينية” إلى سلسلة من الاعتداءات اليهودية المسلحة منذ إنشائها وحتى انتقالها من القدس إلى رام الله عام 1948.
ومع إعلان قيام الدولة العبرية، قامت القوات الصهيونية باحتلال مبنى الإذاعة كاملا، ويذكر توفيق محمود الشاهد في كتابه “رحلتي مع المايكروفون”، أن عصمت النشاشيبي حمل على ظهره أجهزة الإذاعة من مقرها في حي الطالبية في القدس إلى مدينة رام الله بعد أن احتل مباني الإذاعة في القدس، وذهب بها إلى مكان أعمدة الإرسال في رام الله لينطلق صوت “إذاعة القدس” من هناك، ولتتابع “الإذاعة الفلسطينية” رسالتها بعد إنهاء “الانتداب” البريطاني.
وواصلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي البث بالعبرية على إحدى موجتي “إذاعة القدس” تحت مسمى “صوت إسرائيل”. أما الأردن فواصلت البث بالعربية على الموجة الأخرى باسم “هنا القدس إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية” ” التي كان تعرف أيضا بـ”راديو رام الله”. ورغم افتتاح “الإذاعة الأردنية” عام 1959 وصدحت بعبارتها الأولى “هنا عمان إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية” إلا أنها استمرت في البث من محطة الإذاعة في رام الله.
وفي عام 1967 انتهى بث “إذاعة القدس العربية” عندما احتل الجيش الإسرائيلي مقر الإذاعة ضمن حرب 1967.
كما أسست عام 1965 محطة إذاعية في القاهرة باسم “صوت فلسطين صوت منظمة التحرير الفلسطينية” بعد انقطاع البث الإذاعي الفلسطيني، وظهرت “إذاعة فلسطين” في إطار إذاعة “صوت العرب” المصرية. وفي عام 1994 بدأت “إذاعة فلسطين” بثها التجريبي بخطاب للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ثم ابتدأ البث الرسمي بنشرات الأخبار والبرامج من إنتاج محلي في استوديوهات أريحا.
وتسلمت “هيئة الإذاعة والتلفزيون الفلسطينية” عام 1995 موقع الإرسال الإذاعي التاريخي في رام الله، الذي دمره الاحتلال عندما اجتاحت قواته مدينة رام الله عام 2002.
كانت الإذاعة الفلسطينية “هنا القدس”، النواة الأولى لما جاء بعدها من إذاعات فلسطينية في مختلف مراحل الصراع العربي الإسرائيلي، والتي انتشرت في بلاد عربية عديدة بعد نكبة عام 1948 التي تلقي ظلالها الكئيبة علينا هذه الأيام.
(عربي 21)