الحقل الديني بإفريقية وبلاد المغرب.. معالم الإسلام المغاربي
الكتاب: الحقل الديني بإفريقية وبلاد المغرب، مسار تشكله وعناصر تكونه
الكاتب: محمد الهادي الطاهري
دار النشر: وحدة البحث: الظاهرة الدينية في تونس، كلية الآداب والفنون والإنسانيات منوبة 2018.
عدد الصفحات: 142 صفحة.
1 ـ بين يدي الكتاب:
تمنحنا بعض الأسئلة الحافز الضروري لنخوض في قضايا لم ننتبه إليها أو لم نجد السياق الملائم للخوض فيها رغم عمقها أو قربها من اهتماماتها. كذا شأن الباحث محمد الهادي الطاهري. فقد قاده السؤال: “لماذا لم تعمّر الدعوة الإسماعيلية والدولة الفاطمية بإفريقية وبلاد المغرب؟” إلى مبحث مهم وإلى أن يحبّر هذا المؤلف.
وحتى تكون إجابته أعمق وأنفذ إلى جوهر المبحث حوّر من صيغة السؤال ليجعله متعلقا بكيفية تعامل هذا الإقليم الخاص من أقاليم البلاد الإسلامية مع الأفكار الدينية الوافدة عليه. وانطلق عندئذ من مصادرة يشترك فيها الجميع وهي اختلاف “الإسلام المغاربي” عن غيره من تمثلات الإسلام في بقاع العالم ليحدد خصائص هذا الإسلام ووجوه تعامله مع الأفكار الوافدة. فيرتقي عبر الاختبار العلمي، بالإجابة من مستوى الانطباع، إلى التفكير المستند إلى أسس متينة، الضابط للقوانين الناظمة.
يستند محمد الهادي الطاهري إلى مباحث هشام جعيط. فيقدر أنّ بلدان شمال إفريقيا ظلّت مترددة بين ثقافة الجنوب الوافدة من الصحراء وثقافة الشمال ذات الخلفية المتوسطية حتى جاء الفتح الإسلامي. فأخرجها من ترددها وجعلها تستوعب الثقافات الوافدة مع الفاتحين وتبحث عن رؤية مغاربية له. ولكن لابدّ أنّ مقومات ما وضرورة ما جعلتها ترشّح اختيارها من بين المذاهب الكثيرة. فيستدعي مفهوم الحقل الديني ليدرس مسار تشكل هذا الإسلام المغاربي ويضبط عناصر تكونه.
2 ـ في معنى الحقل الديني وبنيته
ينطلق من مصادرات علم الاجتماع فيقدر:
ـ أن الأفكار والتصورات المختلفة منتجات بشرية تخضع لقوانين المنتجات المادية نفسها. فلا بدّ لها من شروط إنتاج تاريخية وثقافية. وككل المنتجات تهاجر إلى بلدان جديدة كلّما وجدت الظروف والوسائط المناسبة. ويبقى عليها أن تتلاءم مع محيطها الجديد فتتغير لتتلاءم معه ولتسهم في تغييره لاحقا وتنتشر في أرجائه. فإن لم تفعل انكفأت على نفسها وتقلّص حضورها في موطنها الجديد وفعلها فيه.
ـ أنّ الحقل، من منطلق مباحث بورديو، فضاء مهيكل. يتكون من مراكز متفاوتة الدرجات. ومن خصائص هيكلته أن يسهر عليها فاعلون لا يصدرون في مواقفهم عن وجهات نظرهم الخاصة وإنما عن وجهة نظر المواقع التي يحوزونها. فيعملون على المحافظة على رصيدها ويصونون مصالحها. ولا يكون الحقل حقلا إلا إذا ما كان له رأسمال يختص به وفاعلون يحرصون عليه. وهذا يعني أنّ الحقول تنشأ عن مسار تاريخي. فتكون مجال صراع رهانه توسيع الحدود والزيادة من رأس المال. فتعكس نتائجه علاقات القوى بين العناصر الفاعلة.
ـ أنّ الحقل الديني إذن أحد حقول الفضاء الاجتماعي. ينطبق عليه القانون نفسه الذي ينطبق على غيره من الحقول المجاورة. فلابد له من فاعلين يديرون شأنه ويسهرون على مصالحه للمحافظة عليه أولا ولتقوية نفوذه ثانيا ضمن موازين القوى المتغيّرة ليحقق وظائفه. ولكن ميزته التي تجعله مختلفا أنه يستقل برأسمال ديني.
عمل ابن تومرت على التأليف بين الخلفيات النظرية السائدة في الحقل المغاربي، على تباعدها في قاع نظري مشترك يخلق من الفقه المالكي والكلام الأشعري والتصوف المغربي وحدة متجانسة منحت الفاعلين الدينين المالكيين، من علم الكلام الأشعري، كفاءة الجدل ومناظرة الخصوم التي افتقدوها زمن الدولة المرابطية.
ـ أنّ الإنسان يوظّف الدين، باعتباره شكلا من الأشكال الرمزية، ليتواصل مع غيره وليفهم وجوده ويبني في ذهنه معارف حول ذاته. فيرتبط نظام عمله بطبيعة أجهزته الدينية، يقصد هيئات إنتاج البضائع الدينية وتوزيعها بين المستهلكين، فيفصل بين منتجي هذه المعرفة العالمة الذين يكونون في هرم السلم والمشرفين على تقديم هذه البضائع وتوزيعها وتبسيط معارفها العالمة الذين يكونون في مرتبة أقل.
يجد الباحث في هذه المفاهيم المفاتيح اللازمة لقراءة الظاهرة الدينية في إفريقية وبلاد المغرب بمختلف أبعادها والكشف عن آليات اشتغالها فيعتمدها منوالا للإجابة عن السؤال الذي انطلق منه في مقدمة الكتاب.
3 ـ صورة إفريقية وبلاد المغرب في المصادر الإسلامية
يعود إلى صورة إفريقية وبلاد المغرب في المصادر الإسلامية فيجدها عامة تتراوح بين نزعتين متقابلتين:
ـ تجعلها الأولى أرضا بكرا بلا ديانة وبلا نبوة، لم يدخلها نبي قط. فهي ليست أكثر من ملاذ لشعب منحدر من الشام، من ولد كنعان بن حام بن نوح، فار من جور الزحف اليهودي على بيت المقدس. أو تستند إلى الحديث النبوي لتقدر أنها بلاد الحق، فيها دارت قصة موسى مع الخضر الواردة في سورة الكهف. فملك قرطاج هو الذي كان يأخذ السفينة غصبا. وعامة هي ليس أرضا غريبة عن الأرض الأم، وأهلها فاضلون ثابتون في الدفاع عن الإسلام. ولكنها بلاد بلا رأس مال رمزي مما يعني مشروعية تملكها وإلحاقها بالمركز الإسلامي، فكانت تختلق سردية إسلامية لتثبت صورة مضيئة حول إفريقية بعد أن استجابت للدعوة.
ـ بالمقابل تجعلها النزعة الثانية شرا محضا. وتستند هذه الصورة بدورها إلى ما يروى عن الرسول من “أن البربر شر من في الأرض”. وفي كتب الرحلات تأكيد لهذا المعنى. فهي تجعلها أرضا لا يفارقها سفك دم ولا حرب على عبارة ياقوت الحموي. وتجعل أهلها من الخوارج المفسدين في البر والبحر. وليس لهم من العلم إلا القليل. وتجعلها عامة أرضا يسودها الخراب والجهل والطيش. ويستنتج من الصورة الثانية أنها كانت أرضا مارقة رافضة لعلاقات الهيمنة، وأنها تلقت رأس المال الرمزي الوافد ونقلته من أداة للهيمنة إلى أداة للتحرر عبر بناء حقل ديني بجهاز بديل وبقواعد عمل غير تلك التي يقوم عليها الحقل في بلاد المركز.
ـ من تضارب الصورتين ينتهي إلى أنّ مقومات الحقل الديني بإفريقية لم تكتمل بعد حتى نهاية القرن السادس ولم تسيج حدوده إلا بجهود الموحدين. فقد مثلت القرون الخمسة الأولى في إفريقية وبلاد المغرب عنصر جذب للدعاة. منها دعوة الفاتحين ودعوة الخوارج، في صيغتها الصفرية (عكرمة مولى بن عباس) أو في صيغتها الإباضية (سلمى بن سعيد). ومنها دعوة المعتزلة ودعوة آل البيت، سواء منها الشيعية الزيدية التي اندمجت مع الدعوة المعتزلية فأنتجت دولة الأدارسة في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة أو الإسماعيلية التي أفضت إلى الدولة الفاطمية نهاية القرن الثالث. ومنها بعثة الخليفة عمر بن عبد العزيز ردا على بعثات المذاهب المارقة. فكانت إفريقية وبلاد المغرب نموذجا للحقل الذي يتصادم فاعلوه الدينيون. فتفد إليه الجماعات المارقة، الهاربة من الأمويين لتختلط بالعنصر البربري وتشكل كيانات يشترك فيه القبلي بالديني فتصطدم مع الفقهاء من جماعة التابعين ضمن بعثة عمر بن عبد العزيز أو ما تشكل عنها من مدرسة دينية رسمية يختلط فيها المالكي بالحنفي وانتشرت خاصة في الفضاء الحضري.
4 ـ بنية الحقل الديني بإفريقية وبلاد المغرب:
ينطلق الطاهري من مصادرة بورديو التي ترى أن الحقل الديني ينشأ من حاجة العمران البشري إلى صنائع دينية تحوّل الدين باستمرار إلى بضاعة عمومية يستوعبها الناس ويفيدون منها، ومن مصادرته التي ترى أنّ المشرفين على الشأن الديني، يسعون إلى تجريد كل من ينافسهم في مجالهم الحيوي من كل صفة دينية عاملين على احتكار بضائعه إنتاجا وتوزيعا.
وبناء على المصادرتين يفهم تراجع الرأسمال الذي أسسته الدعوات الشيعية أو الاعتزالية المارقة عن السلطة المركزية. ثم تسيّد المشهد فاعلو الدعوة المرابطية في القرنين الخامس والسادس للهجرة. وهم إصلاحيون يعتنقون المذهب المالكي السني. فكانت الدعوة المرابطية رأس مال جديدا يقصى من ساحته المتكلمين وأهل الرأي وكل من ابتعد عن الظاهر في الدين ويجتذب الفقهاء وأهل الظاهر وكل من ابتعد عن التأويل لأنهم أقدر على المحافظة على رصيده وصيانة مصالحه. فتغلبت الفروع على الأصول والظاهر على الباطن. واختزل الدين في جملة من الأحكام.
قدّر أنّ بلاد إفريقية وبلاد المغرب جزء من مجال جغرافي مختلف عن المجال الإسلامي المركزي، ظل يجذب الأفكار المهمشة في المركز وكان متحركا منفتحا على مختلف الاتجاهات حتى جاء الموحدون فثبتوه وسيجوا حدوده ومنحوه هويته الخاصة ومنحوا البلدان المغاربية قواعد ثابتة لتنظيم الشأن الديني وضبط علاقته بالمجال السياسي والاجتماعي ما تزال آثارها قائمة إلى اليوم.
وبناءً على ما تقدّم ينظر إلى ابن تومرت باعتباره فاعلا جديدا متمرّدا على الجهاز الديني القائم. فانطلاقا ممّا رسخه الحقل الديني في اللاوعي من القيم والنواميس نبه إلى انخرام الممارسات الدينية وإلى انعدام المعرفة النظرية بين فاعليها الدينيين وانطلق من وضع المستهلكين المتدهور الذي تسوده المنكرات وعدم التقيد بما في الشريعة من الأحكام وقدّم نفسه على أنّه المهدي المنتظر والإمام المعصوم والمهدي المعلوم الذي سيملأ الأرض عدلا. ووجد في “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” ما يشرّع له الفعل والهيمنة على الحقل وإعادة تشكيله وتوسيع حدوده وإضافة قيم جديدة له. والمهدوية، في مرجعية الباحث النظرية، صيغة لإعادة بناء الحقل الديني من جهة رأسماله وفاعليه وأجهزته. فهي تضبط خللا جوهريا فيه. وتنطلق من اعتقاد راسخ في أذهان المسلمين بأن الله يبعث فيهم كل مائة من يجدد بهم دينهم. فيحيي الرسالة ويصحّحها ويمنحها دفقا جديدا.
ضمن هذا الأفق عمل ابن تومرت على التأليف بين الخلفيات النظرية السائدة في الحقل المغاربي، على تباعدها في قاع نظري مشترك يخلق من الفقه المالكي والكلام الأشعري والتصوف المغربي وحدة متجانسة منحت الفاعلين الدينين المالكيين، من علم الكلام الأشعري، كفاءة الجدل ومناظرة الخصوم التي افتقدوها زمن الدولة المرابطية. وقدّم نظرية في المعرفة الدينية تسلك في العلم بالتوحيد والتنزيه مسلك العقل وفي العلم بأحكام الشريعة مسلك السمع. فأفضى سعيه إلى تثبيت هذا الحقل بعد أن وجد سكان شمال إفريقيا التصور الذي يناسبهم للبضاعة الدينية، تثبيتا يتواصل حتى اليوم بعد أن امتلك هذا الحقل الخلفيات النظرية المؤسسة التي كان يفتقد إليها قبل نشأة الدولة الموحدية. لماذا لم تعمّر الدعوة الإسماعيلية والدولة الفاطمية بإفريقية وبلاد المغرب إذن؟ لقد حبّر الباحث عامة الأثر ليكون إجابة عن هذا السؤال الذي طرح عليه يوم مناقشته لأطروحته وكأنه يعيد قولة أبيقور “أنّ المسألة شائكة والعمر قصير”.
5 ـ الحقل الديني بإفريقية وبلاد المغرب وبعد؟
تتضح أطروحة هذا المؤلف إذن. فقد استدعى مفهوم الحقل من علم الاجتماع بحثا عن منوال مختلف لفهم قانون تشكل الظاهرة الدينية ووظائفها وفهم الفكر بكونه “بضاعة مجرّدة” تدور حولها الصراعات وتحتكم إلى قانون المنافسة والإقصاء وتحتاج مهارة في التسويق. ومن هذا المنطلق قدّر أنّ بلاد إفريقية وبلاد المغرب جزء من مجال جغرافي مختلف عن المجال الإسلامي المركزي، ظل يجذب الأفكار المهمشة في المركز وكان متحركا منفتحا على مختلف الاتجاهات حتى جاء الموحدون فثبتوه وسيجوا حدوده ومنحوه هويته الخاصة ومنحوا البلدان المغاربية قواعد ثابتة لتنظيم الشأن الديني وضبط علاقته بالمجال السياسي والاجتماعي ما تزال آثارها قائمة إلى اليوم.
بديهي أنّنا لا ندرس الماضي لذاته ولا نحلل مظاهره إلا لنفهم الحاضر بطريقة أعمق. ولنبحث عن “حلول للمستقبل مدفونة في التراث”. لذلك نفهم أن الكتاب أكل من إجابة متأخرة عن سؤال يتوقع صاحبه إجابة في دقيقتين. ونعتقد أن الخفيّ منه أنه إجابة غير مباشرة عن سؤال لم يطرح هو “ما مآل التيارات الدينية التي ظهرت في تونس ما بعد الثورة. ومدار هذه الإجابة هو ” مآلها الزوال طالما لم تتكيف مع خصوصيات الحقل”.
ورغم تلميحاته إلى الأمر ظلّ يناور ويدفع السؤال إلى الخلفية ليضمن لعمله الأكاديمي رصانته بعيدا عن تشنج الإيديولوجيا والتجاذبات السياسية، وحتى لا يورّط نفسه في قراءة واقع متشعّب لا يفتأ يتحرك. ولا نعتقد أن مفاهيم بورديو حول الحقل الديني وحدها قادرة على تقديم الإجابة عن هذا السؤال. فـ “الإسلام المغاربي” يتغيّر بدخول فاعلين جدد نجوم هم “الجهاد” في أفغانستان والبوسنة والعراق وسوريا العائدين إلى هذا الحقل بعد رحلة القتال، ونجوم القنوات الدينية الوافدين عبر الأقمار الصناعية من خارج هذا الحقل الجغرافي. وهذا يقتضي النّظر إلى المسألة من منطلق آليات الإعلام في التلاعب بالعقول التي اشتغل عليها بيير بورديو نفسه في أثره “Sur la télévision”.