عين غزال.. قُصفتها العصابات الصهيونية بالقنابل في رمضان وأجبرت الأسرى على دفن الجثث المحترقة
ساهر غزاوي
تركزت السياسة لقيادة العصابات الصهيونية في ترويج الحاجة إلى تشجيع الهجرة اليهودية بحجم كبير. فقد كان القادة يقرون بأن الهجرة المتزايدة لن تكفي لموازنة الغالبية الفلسطينية ويقولون إن الهجرة اليهودية تحتاج إلى أن تصاحبها وسائل أخرى. وكان بن غوريون قد سبق ووصف هذه الوسائل في عام 1937 لأصدقائه فأخبرهم بأن حقيقة وجود غالبية فلسطينية يجب أن تدفع المستوطنين اليهود إلى استخدام القوة لتحقيق الحلم أي: “فلسطين يهودية”. وبعد عشر سنوات، يوم 3 ديسمبر 1947 ألقى خطابا أمام جمع من كبار أعضاء حزبه (حزب الماباي) كشف فيه بوضوح عن كيفية التعامل مع الحقائق المرفوضة في قرار الأمم المتحدة. ومن بين ما جاء في خطابه قوله: “يوجد 40% من غير اليهود في المناطق التي خصصت للدولة اليهودية. وهذه التركيبة لا تشكل أساسا صلبا لدولة يهودية. وعلينا مواجهة هذه الحقيقة الجديدة بكل ما تحتويه من قسوة وتفرقة. إن مثل هذا التوازن الديموغرافي يختبر قدرتنا على الحفاظ على السيادة اليهودية.. وإن دولة بها 80% من اليهود على الأقل هي وحدها الدولة المستقرة والقابلة للحياة”.
وعلى أساس هذا الفكر الصهيوني، وضعت الخطط لذلك من البدايات بهدف خلق قلعة يهودية صافية عرقيا. فكانت قرية عين غزال، قضاء حيفا إحدى ضحايا التطهير العرقي على يد القوات الصهيونية. ولم يبق قائما في موقع القرية سوى مقام الشيخ شحادة المتداعي. ويمكن رؤية أنقاض الحيطان وركام الحجارة في أرجاء الموقع كلها، فضلا عن صفوف من شجر الصنوبر والتين والرمان ونبات الصبار. وقد سيج الموقع مؤخرا لاستخدامه مرعى للمواشي. أما الأراضي المستوية المجاورة له، فتزرع فيها الخضروات والموز وغيره من أصناف الفاكهة. وغرست أشجار اللوز في بعض السفوح.
وفي عام 1949 أقيمت على بعد 3 كيلومترات إلى الجنوب الشرقي من موقع قرية عين غزال، مستعمرة “عين أيالا”، أما مستعمرة عوفر، فقد أقيمت في سنة 1950 على أراضي القرية على بعد كيلومترين الى الجنوب الشرقي منها.
لمحة تاريخية
تقع أنقاض قرية عين غزال على السفوح العليا لجبل الكرمل، وترتفع 110م تقريباً عن مستوى سطح البحر، وتبعد حوالي 21 كم إلى الجنوب من مدينة حيفا. يحيط بها قرى إجزم، وكفر لام، وجبع، والصرفند، والطنطورة. أنشئت القرية بادئ الأمر في القرن الثالث عشر الميلادي. ومن المرجح أن تسميتها يعود إلى أفواج الغزلان التي وردت عين الماء القريبة منها. أما منازلها فقد بنيت بالحجارة، والمواد الطينية على مساحة وصلت في عام 1945م إلى حوالي 130 دونماً، وكان فيها مدرسة ابتدائية للبنين، وأخرى للبنات، ونادٍ ثقافي.
وبلغت مساحة أراضي القرية عام 1945م حوالي 18079 دونماً، وكان نصفها تقريباً مخصصا لزراعة الحبوب، وأشجار الزيتون. وقد استفاد الأهالي من وجود بئر ماء حفر في أوائل عقد التهجير في محيط القرية لتزوديهم بمياه الشرب، ولري محاصيلهم، ولسقي مواشيهم. وكانت المياه تضخ الى القرية بأنابيب من بئر مجاورة حفرت في الأربعينات. وكان اقتصاد القرية يعتمد على تربية المواشي وعلى الزراعة، وفي 1944\ 1945 غرست أشجار الزيتون في نحو 1400 دونم وكان ما مجموعه 8472 دونما مخصصا للحبوب. وكان من شأن مجاورتها لمدينة حيفا أن أتيح لبعض العمل في قطاع الخدمات في الميناء والوسط التجاري.
قدر عدد سكانها في عام 1922م بحوالي 1046 نسمة، وفي عام 1945م بحوالي 2170 نسمة. وقد ازداد عدد سكانها في عام التهجير ليصل إلى 2517 نسمة تقريبا. وتذكر مصادر تاريخية أنه تأسس في عين غزال عام 1303 هـ مدرسة إبان الحكم العثماني للبلاد وفي عام 1942-1943 كان أعلى صفوفها الرابع الابتدائي. بينما كان في القرية مسجد، وثمانية مقامات، ومقبرتان.
تفاصيل عملية التطهير العرقي
بعد إعلان إقامة الدولة اليهودية مساء يوم 14 آيار/مايو، كلفت العصابات الصهيونية لواء ألكسندروني مهمة تطهير القرى الواقعة إلى الشرق والشمال من تل ابيب ويافا. وبعد ذلك، أُمر بالتحرك شمالاً والبدء، مع وحدات أخرى، بإخلاء الساحل الفلسطيني من السكان الفلسطينيين صعوداً حتى مدينة حيفا.
وصلت الأوامر إلى اللواء في 12 آيار/مايو: “يجب أن تحتلوا وتدمروا خلال 14 و15 آيار/مايو: الطيرة، قلنسوة، عورتا، دنابة، إكتابا، الشويكة. وعلاوة على ذلك، يجب أن تحتلوا قلقيلة، لكن لا تدمروها”. وخلال يومين وصل الامر الثاني إلى رئاسة أركان لواء ألكسندروني: “عليكم أن تهاجموا وتطهروا كلاً من طيرة حيفا، عين غزال، إجزم، كفر لام، جبع، عين حوض، المزار”.
بقيت ثلاث قرى فقط في المنطقة الساحلية جنوبي حيفا مباشرة، لم تتمكن قوات يهودية ضخمة من احتلالها خلال الأيام العشرة الفاصلة بين الهدنتين الأولى والثانية، على الرغم من محاولاتها المتكررة. ويبدو أن بن-غريون أصبح مهجوساً بها، فأمر بأن تستمر محاولات احتلالها حتى بعد أن سرى مفعول الهدنة الثانية، وبلّغت القيادة العليا مراقبي الهدنة التابعين للأمم المتحدة أن العملية ضد هذه القرى هي مجرد نشاطات بوليسية، بل حتى اختارت للهجوم بكامله الاسم الرمزي “عملية الشرطي” (شوطير بالعبرية). لكن بعد أسبوع تمام على بدء “الهدنة” بدأت عملية “الشرطي” بالتطهير العرقي بلا هوادة.
وبحسب المؤرخ مصطفى كبها فإنه في أثناء نكبة وحرب 1948 دعيت منطقتان باسم “المثلث”؛ الأولى “مثلث الساحل” التي عرفت أيضاً باسم “مثلث الكرمل” وأطلق عليه مصممو الرأي العام اليهودي آنذاك اسم “مثلث الرعب” أو “المثلث الصغير”، والذي ضم قرى إجزم -جبع عين غزال. أما المنطقة الثانية فهي المنطقة التي تم سلخها عن المثلث الكبير وضمها لإسرائيل في شهر أيار 1949 وذلك تنفيذاً لاتفاقية الهدنة في رودس، والتي أبرمت بين إسرائيل والأردن في نيسان 1949، والتسمية هنا تسمية مجازية لأن شكل هذا القطاع لا يمت لشكل المثلث بأية صلة فهو عبارة عن شريط طوله 70 كم وعرضه بالمعدل 5 كم.
ويذكر المؤرخ الإسرائيلي، إيلان بابيه في كتابه (التطهير العرقي) أن سكان قرية عين غزال الذين بقوا صامدين فيها ابتهجوا عندما سمعوا أن الهدنة الثانية صارت سارية المفعول. وحتى أولئك الذين يحرسون القرية منذ أيار/ مايو ظنوا أنهم يستطيعون الآن أن يخففوا يقظتهم. وكانت تلك الأيام أيضا أيام صوم رمضان، وفي 26 تموز/ يوليو كان السكان خرجوا في معظمهم إلى الشوارع للإفطار وتجمعوا في المقاهي القليلة في وسط القرية عندما حلقت طائرة فوقهم وألقت قنبلة انفجرت وسط الحشد تماماً محققة لإصابة مباشرة. وتفرقت النساء والأطفال مذعورين، وبقي الرجال ليشاهدوا بعد وقت قصير القوات اليهودية تدخل القرية.
ويضيف، أمرت القوات المحتلة (الرجال) بالتجمع في مكان معين، كما كان يجري في جميع أنحاء الريف الفلسطيني في حالات كهذه. وسرعان ما ظهر المخبر، مغطى الرأس دائماً، وضابط الاستخبارات. شاهد الناس عملية انتقاء سبعة عشر شخصاً منهم، وأساسا لأنهم شاركوا في ثورة 1936، وشهدوا إعدامهم على الفور، وطُرد الباقون. وفي اليوم نفسه، لقيت القرية السادسة في هذا الجيب، جبع، مصيراً مشابهاً.
وفي رواية أخرى نقلتها صحيفة “نيويورك تايمز” عن صحيفة يهودية تقول فيها: إن هجوما شن على قرية عين غزال بتاريخ 14 آذار \ مارس 1948، دمرت فيه أربعة منازل تدميرا شاملا. وقالت الشرطة البريطانية إن امرأة فلسطينية قتلت وجرح خمسة رجال في ذلك الهجوم. وكانت صحيفة (فلسطين) أوردت نبأ حدوث هجوم على عين غزال قبل ذلك بأيام قليلة، أي في 10 آذار \ مارس، لكن من دون ذكر للتفصيلات. بعد ذلك التاريخ بنحو شهرين، وقع هجوم آخر في 20 أيار\ مايو. فقد قال أحد المخبرين لمراسل وكالة إسوشيتد برس إن الهاغاناه اقتحمت عين غزال بعد أن أوقف القناصة السير على طريق حيفا-تل أبيب. ولم يذكر شيء عن وقوع ضحايا.
كانت قرى عين غزال وجبع وإجزم تشكل (المثلث الصغير) إلى الجنوب من حيفا، وهذه القرى صدت عددا من الهجمات الإسرائيلية في الأشهر اللاحقة وشكلت جيبا لم يتم احتلاله إلا مع نهاية تموز\ يوليو 1948. وقد جرت ثلاث محاولات رئيسية لاقتحام القرى الثلاث، فأفشل المدافعون عنها المحاولتين الأوليتين في 18 حزيران\ يونيو و8 تموز\ يوليو على التوالي. وخلال المحاولة الثالثة، استغل الجيش الإسرائيلي الهدنة الثانية لشن هجوم، قوامه قوات خاصة مستمدة من ألوية غولاني وكرملي وألكسندروني. بدأت العملية في 24 تموز\ يوليو، اشتملت على قصف عنيف بالمدفعية وقصف جوي استمرا يوما كاملا (وفيما بعد، كذب وزير الخارجية الإسرائيلي، شرتوك، حين قال لوسيط الأمم المتحدة العملية في 24 تموز\ يوليو، اشتملت يوما كاملا (وفيما بعد، كذب وزير الخارجية الإسرائيلي، شرتوك، حين قال لوسيط الأمم المتحدة إن (الطائرة لم تستخدم). وفي 26 تموز\ يوليو، أشارت وكالة إسوشييتد برس في نبأ لها، وببساطة إلى أن الطائرات والمشاة الإسرائيلية نفضت الهدنة الفلسطينية بمهاجمة القرى الثلاث.
وعلى الرغم من شراسة الهجوم فإن احتلال هذه القرى لم يتم إلا بعد يومين، وقد استمر الجنود الإسرائيليون يطلقون النار على سكان القرى أثناء فرارهم. ويقول المؤرخ الإسرائيلي بني موريس إن سكان القرى الذين وقعوا في الأسر أمروا بدفن 25-30 جثة محترقة في عين غزال، وأشار بعض التقارير إلى وقوع مجزرة في القرية. غير أن المسؤولين الإسرائيليين نفوا ذلك قائلين إن الجثث أحرقت لأن أصحابها وجدوا أمواتا، ولأنها كانت بدأت تتعفن. وأودت صحيفة “نيويورك تايمز” في ذلك الوقت أن ضباط الارتباط الإسرائيليين اعترفوا لمراقبي الهدنة التابعين للأمم المتحدة بأن تسعة من القرويين قتلوا في عين غزال. ولم تعثر الأمم المتحدة على أي أثر يدل على وقوع مجزرة. لكن محققيها قدروا، في أواسط أيلول \ سبتمبر، عدد القتلى والمفقودين من القرى الثلاث بمئة وثلاثين، وفق ما ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز”، بتدمير إسرائيل (المنتظم) لعين غزال وجبع، وطلب من الحكومة الإسرائيلية أن ترمم، على نفقتها كل المنازل التي تضررت أو دمرت خلال الهجوم وبعده. وقال برنادوت إن 8000 شخص طردوا من القرى الثلاث، وطالب بالسماح لهم بالعودة إليها. غير أن إسرائيل رفضت هذا الطلب.
شهود عيان
ويقول الحاج يوسف أبو محمود من قرية عين غزال في شهادة شفوية له: (أوقعت غارات الطائرات حوالي 30 قتيلا و35 جريحاً من أبنائنا، ووقعت عدة إصابات في بلدات أخرى، ولكن العرب رفضوا طيلة أيام عديدة الاستسلام أو الهرب من بيوتهم. عندما نفذت ذخيرة الحاج سعد وهو يقاوم في عين غزال اخترقت عدة رصاصات جسده استشهد وهو يقاوم اليهود في عين غزال الذين هاجموا البلدة. وحين نفذت ذخيرة الحاج سعد سأله أحد اليهود “خلصت ذخيرتك طيب خذ” واخترقت الرصاصة كوم الحجارة الذي كان يختبئ خلفة واستقرت في جسده).
ويتابع الحاج أبو محمود: (في عين غزال أيضا كان الخروج في رمضان، في 24 رمضان تجمعت الناس آخر النهار وطلعت مع بعضها في يوم واحد ليلة واحدة، وساروا سوية وعبروا مشياً، أم جمال كنير، كفر قرع، وقعدنا في عارة جمعة. مضيفا: (انتقلنا على الجسر اللي بين باقة الغربية وجت ونصبنا خرابيش كان وقتها قطيفة الذرة، ظلينا للمطر وبعدين انتقلنا إلى باقة الشرقية قعدنا 3 سنوات وانتقلنا بعدين لبرقين).
أما الشاهد يوسف مسعد خالد عندما ترك عين غزال كان 18 عاماً يقطن فيقول: (اليهود والعرب كان كل واحد في حاله. والدول العربية والانجليز متفقين يسلحوا البلاد والتي أخرجتنا هي الدول العربية. وكنا نخابر الجيش العراقي وهو يقول استنونا وبعدين دبروا حالكم. ولم يدخلوا البلاد إلا بعدما طلعنا وحدث هجوم وقتل كثير، منهم: يوسف عبد الله خالد، وقتلوا من اليهود كثير ويوسف عبد الله قتل في الوعر وهو طويل واصابته الرصاصة. وفي يوم جين أربع طيارات فكروهن الناس عراقيات وطلعن يهوديات. وعملن حيلة تغطية ذهن شرقاً وبعد ضربت البلد وهدمت لبيوت وقتلت حوالي عشرين شخصاً بالمكيدة التي عملها اليهود، ومن القتلى (قاسم أبو محمود) وهؤلاء كانوا موجودين بالجامع. وكل القرى هجت الا احنا وحيفا كانت ساقطة. وبقاؤنا لم يكن له فائدة، كل المنطقة ساقطة والعراقية قالوا دبروا حالكم. وكان يوجد سلاح لكن فش منه فايدة، لأنو وحدنا وطلعن ثلاث بلاد ومرينا من بين اليهود ولم يقتلوا حد على الطرق واحنا راحلين، واطلعنا بالقوة. واليهود لا تريد قتل بس بدهم يخروجنا وسمحوا لنا بالخروج، وقتلوا منا حوالي عشرين شخصاً، أي بلد كانوا يدخلوها يقتلوا فيها. وخرجنا حوالي عام 1949 وبقي هناك بعض كبار السن ولا نعرف مصيرهم).
المصادر
___________
1 . الموسوعة الفلسطينية. 25 آب 2014. عين غزال.
2. مصطفى الدباغ، بلادنا فلسطين، جزء 7، ص 655، 656.
3. إبراهيم أبو جابر، “جرح النكبة” الجزء الأول، ص 341-351.
4. موسوعة المقدسات في فلسطين، مؤسسة الأقصى للوقف والتراث، قضاء حيفا، ص 356، 357.
5. وليد الخالدي، “كي لا ننسى” (1997). مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ص 120-124.
6. ايلان بابيه، “التطهير العرقي في فلسطين”، ص 194.
7. مؤسسة فلسطين للثقافة، مصطفى كبها، 23 تموز 2017، مثلث الكرمل (إجزم -جبع -عين غزال).