“الإرهاب والتنوير”.. حولته نظرية المؤامرة إلى هلوسة تاريخية
الكتاب: الإرهاب والتنوير.. تاريخ عمره ثلاثة آلاف عام
المؤلف : ديفيد ليفينغستون
المترجم: أدهم وهيب مطر
الناشر: تموز ديموزي للطباعة والنشر/2018
“المتنورون” اسم أطلق على جمعية سرية أسسها آدم ويشاويت في ألمانيا في العام 1776 بهدف “السيطرة على العالم بالقوة، ومن خلال اتباع وسائل تخريبية، وذات طابع قسري وإجرامي”. وهذا الإسم أو المصطلح يشير كذلك إلى الجماعات والمنظمات السرية، التي لا تزال تواصل عملها حتى يومنا هذا من أجل تحقيق الهدف نفسه.
على هذه الفكرة المريبة وحولها ينسج الباحث الكندي ديفيد ليفينغستون فصول كتابه المرهق، والمتخم بقصص الأنساب بين القبائل والشعوب القديمة، والروايات التاريخية والمعاصرة في آن واحد، والممتلئ بسرد متشعب ومشتِت لأحداث من الشرق والغرب، لا يربط بينها سوى ذلك الخيط الرفيع الذي افترض الباحث وجوده منذ البداية وهو المؤامرة التي ينفذها مجتمع سري يدير العالم، ليس فقط منذ ظهور “المتنورين” بل من حيث تمتد جذوره إلى ثلاثة آلاف عام.
بحسب ليفينغستون فإن هذا “النظام” كان قد بدأ أساسا في مدينة بابل في القرن السادس قبل الميلاد مع ظهور “بدعة قبائل القبالا اليهودية”. ووفقا لمعتقداتهم فإن “المتنورين” يمثلون أحفاد الملائكة الذين هبطوا من السماء والذين استوطنوا قارة اطلانتيس المفقودة في المحيط الأطلسي، والذين اندمجوا مع البشر وأفرزوا جنسا بشريا متفوقا، يمتلك أسرار وأصول الحكمة القديمة، هو الجنس الآري.
إنهم كما يقول ليفينغستون “يدركون واجبهم المقدس في صراع الحضارات، وإقامة نظام عالمي جديد، لفرض عبادة دين العالم الواحد، وهو دينهم الذي يجب أن يحكم من تلقاء نفسه بواسطة أحد أتباعهم”.
وتابع: “على مر القرون كان أولئك المتنورون ينتقون أزواجهم فيما بينهم بعناية كبيرة، ومن نفس الطائفة وذلك للحفاظ على سلالة خط الدم المقدس ولنقل المعرفة الباطنية من جيل إلى جيل.. ولهذا السبب فهم يطلقون على أنفسهم أيضا لقب “العائلة”.. وخدمة لمعتقداتهم فقد أصبح المتنورون يتقدمون السلالات المصرفية القوية في أوروبا، ويمارسون لعبة التفوق، والهيمنة على حكومات العالم، فضلا عن اقتصاداتها، وحتى ثقافاتها”.
نفق العناوين
سيبدو هذا الحديث أقرب ما يكون إلى حديث الأساطير والخرافات، حتى وإن وجد له مصدقين وأتباع، غير أن ليفينغستون، الباحث في التاريخ كما يقدم نفسه، وكغيره ممن يتبنون نظرية المؤامرة، يتعامل معه باعتباره الأساس المتين، والوحيد ربما، لتفسير وفهم الأحداث والكوارث على مر العصور. لذلك لامفر من أن يشعر قارئ هذا الكتاب كلما مضى في تقليب صفحاته وكأنه قد دخل إلى نفق معتم ومخيف، تختلط فيه الأصوات والصور من الماضي والحاضر، دون مبرر منطقي سوى ذريعة المجتمع السري، ذاك الذي امتدت أياديه الخفية بالتدبير والتنفيذ لتطال كل بقاع الأرض.
يصعب على أي قارىء متوسط الثقافة والاطلاع أن يقتنع بمنطق نظرية المؤامرة الذي يحيّد كل العوامل التاريخية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لحدث ما، ويخرجه من سياقاته الطبيعية، كما يخرج الشخصيات التاريخية من إطارها وظروفها التي شكلتها، ويدفع متبنيه بالتالي لقراءة مواقفها أو تصريحاتها من زاوية ضعيفة وضيقة.
وعلى ذلك ستشمل مواضيع فصول الكتاب السبعة والعشرون عناوين متعددة بشكل مربك، بحيث تكاد لا تستثني مجتمعا، أوطائفة، أو مكانا. فمن المجوس البابليين، واليونان القديمة، وأفلاطون، والإسكندر الأكبر، إلى أرمينيا القديمة، والثورة اليهودية، وأسرار ميثرا، والغنوصية ، وقسطنطين الأكبر، والانجلو ساكسون، والأشكنازي، والمانوية، والخزر. ومن الفرنجة والامبراطور شارلمان، والبوغميليون، إلى الحشاشين والصابئة والإسماعيلين. ومن الحروب الصليبية إلى عبدة الشيطان، وحركة فرسان الرباط، وحرب الوردتين، وسلالة هابيسبورغ. ومن السبتيين والثورتين الفرنسية والأمريكية إلى 1848 عام الثورات، وفلسفة العدمية. ومن الوهابيين وابن تيمية إلى سلالة روتشيلد، والمائدة المستديرة، والسلفيين، وجمال الدين الأفغاني. ومن الحرب العالمية الأولى إلى عصبة الامم المتحدة وسقوط الامبراطورية العثمانية، والنازية، وحركة الاخوان المسلمين، ورابطة العالم الإسلامي. كما ستشمل هذه المواضيع أزمة النفط، والبترودولار، وإفقار العالم الثالث، وموسيقى الروك آندرول، ومدرسة فرنكفورت، والفلسفة الوجودية، ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وقمة الأرض. كل هذه العناوين المتشعبة سيضاف إليها أيضا عناوين حول الأصولية الإسلامية، وحرب استقلال الجزائر، والثورة في إيران، وتنظيم القاعدة وعبدالله عزام، وأسامة بن لادن، والسودان والفلبين والبوسنة، وتفجير مركز التجارة العالمي، والنازيون الجدد، والمحافظون الجدد، وعملية إيران ـ كونترا.
الحكومة العالمية
يتبنى ليفينغستون نظرية المؤامرة بقوة، وهي التي جعلت من وضع كل العناوين السابقة في كتاب واحد أمرا مبررا، بالنسبة له على الأقل، لارتباط أحداثها جميعا بخيط واحد، كما يعتقد. يقول ليفينغستون أن الجمعية السرية للمتنورين التي كشف عن أهدافها ومؤامراتها في العام 1784 اضطرت للانحلال والتفكك”صوريا”، لكن مؤسسها آدم وشاويت كان قد قال: “إذا كان نظام المتنورين سيتفكك ويضربه الخراب ذات يوم، فسوف أكون مستعدا لإعادة تأسيسه في أقل من عام، وسوف يكون أكثر براعة وذكاء وشراسة من أي وقت مضى”.
لذلك فإن ليفينغستون لا تقنعه آراء المؤرخين أو الباحثين الذين ينفون وجود هذه المؤامرة أو حتى آراء أولئك الذين يقللون من أهمية دورها. ويقول: إن المتنورين شبكة دولية عالمية الانتشار، وموجودة في عالم مواز، ومتداخلة بين الجبهات الشرعية، والأنشطة في السوق السوداء، بل وحتى تحت الأرض كذلك.!!
ويضيف: إن هذه “الشبكة” تسعى لاستعباد دول العالم عن طريق إغراقها بالديون لكي تضمن تبعيتها، و”لتضمن النقل البطيء والمدروس نحو سيادتها من أجل تحقيق حلمها الرئيسي في تأسيس الحكومة العالمية”.
ويرى ليفينغستون أن أعضاء هذه الشبكة يمولون أنشطتهم السرية من خلال السيطرة على عالم الاتجار غير المشروع بالأسلحة، والاتجار بالمخدرات والبغاء وأي نشاط يدر الأرباح الطائلة، كما أن أنشطتها “تتداخل” مع أنشطة أجهزة الاستخبارات الدولية، وعصابات الجريمة المنظمة، وتعمل على حد قوله “جنبا إلى جنب مع الماسونية، والعديد من الجمعيات السرية الأخرى، وهي المسؤولة عن ظهور العديد من الطوائف الراديكالية.. والحركات الأصولية المسيحية، والإسلامية، والأهم من ذلك الإرهاب”. وكل ذلك لتصل البشرية إلى الحرب العالمية الثالثة ” التي سوف تنشب من رماد الحضارات التي انتهت في عصرنا.. لتؤسس النظام العالمي الجديد.. ولتحقيق ذلك فقد تم التخطيط ..لخوض المواجهة المقبلة كيما تبدو على أنها صراع الحضارات بين الغرب الديمقراطي الليبرالي وبين الأصولية الإسلامية”.
وداعا للمنطق
يصعب على أي قارىء متوسط الثقافة والاطلاع أن يقتنع بمنطق نظرية المؤامرة الذي يحيّد كل العوامل التاريخية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لحدث ما، ويخرجه من سياقاته الطبيعية، كما يخرج الشخصيات التاريخية من إطارها وظروفها التي شكلتها، ويدفع متبنيه بالتالي لقراءة مواقفها أو تصريحاتها من زاوية ضعيفة وضيقة.
منطق يحيل كل ذلك إلى دائرة فعل سرية تعمل خلف الستار لاختلاق صراع هنا أو ثورة هناك، بينما تحتشد كل الأسباب الواضحة والبدهية لذلك، وكأنما الغالبية العظمى من البشر، بمن فيهم من العلماء والمثقفين، هم مجرد دمى بلا عقل أو وعي لإدراك الخير وتمييزه عن الشر، أو أشواق للحرية والتغيير، تحركهم وتتلاعب بهم مجموعة، أو حتى مجموعات، سرية بمعتقدات غرائبية خرافية، حتى وإن سلّمنا بوجودها. بعض المقاطع من كتاب ليفينغستون توضح مثل هذا المأزق في قراءة التاريخ وتحليل وقائعه، والذي ينسحب كذلك على فهم الأحداث المعاصرة.
تحت عنوان”الإخوان المسلمون” يقول ليفينغستون: “كانت ثمار المعرفة الخفية والمشتركة بين الفصيلين المتطورين من النفوذ “الأفغاني” (يقصد جمال الدين الأفغاني) و”النازيين” و”السلفيين” سيعملان معا لإحياء تكتيكات السيطرة على العقلية القديمة للإسماعيليين، ولتشكيل هيئة من المحرضين والمعروفين أكثر باسم الإرهابيين. كان اسم تلك المنظمة التي ستحتضن أولئك المحرضين أو الإرهابيين جماعة الإخوان المسلمين. وفي نهاية المطاف وعلى غرار المثال الذي وضعه “جمال الدين الأفغاني” و “محمد عبده” فإن القيادة العليا لجماعة الإخوان المسلمين لن تعتنق الإسلام إلا للخداع. أما حقيقة إيمانهم فقد كان في الطائفة الغنوصية للإسماعيليين، والذين يتقاسمون من خلالها تاريخا مشتركا مع إخوتهم الغامضين في الغرب”.
يتابع ليفينغستون الذي يصف جماعة الإخوان أيضا بأنها ماسونية: “منظمة “الإخوان المسلمون” تأسست في مصر في عام 1929 وهي منظمة تمثل الأصولية الإسلامية المنظمة، والتي أسس لها الوكيل البريطاني حسن البنا الذي كان يدعي أنه صوفيا.. واليوم فإن جماعة الاخوان المسلمين هي المظلة التي تتجمع فيها مجموعة من الأصوليين السنة الصوفيين”.
وسيخبرنا ليفينغستون كذلك بأن حسن البنا كان من المعجبين جدا بهتلر حتى أنه “تم تجنيده وغيره من أعضاء جماعة الإخوان من قبل المخابرات العسكرية النازية لتقديم معلومات عن البريطانيين، والعمل سرا لتقويض السيطرة البريطانية في مصر”. هذه المعلومات المجتزأة، وغير الدقيقة، والأقرب إلى الهذيان هي مثال بسيط على هذيان آخر غص به كتاب ليفينغستون.