المجتمعات العربية والتحولات العالمية
تتعرض المجتمعات البشرية في العصر الراهن لتحوّلات عميقة في تصوراتها لذواتها وللآخرين، وفي طريقة تعاملها مع نفسها ومع العالم المحيط بها. وتغدو هذه التحوّلات، نتيجة لتسارعها وسعة المساحة والعناصر التي تشملها، صفةً جوهرية للمجتمعات، فقد أصبحت بامتياز مجتمعات صيرورة. ومما لا شكّ فيه أنّ أهم العوامل المحرّكة للمجتمعات هو تتعدد مصادر المعرفة وتدفق المعلومات إلى حدّ هائل، وسيطرة الانفتاح في وسائل التواصل التي تقلّصت من خلالها الفروقُ بين المجتمعات في إمكانيّات الحصول على البيانات والأخبار والتعرّض للمؤثّرات والإعلانات، على الرغم من تباعدها عن بعضها في المكان والتطور والثروة.
وعلى الرغم من أنّ الآثار المترتبة على تدفق البيانات وتوفّر مصادر المعرفة مختلفة بين المجتمعات؛ فتلك التي تملك وسائل العلم المتطوّرة والجامعات والمراكز البحثيّة والمعرفيّة المتميزة أكثرُ قدرة على إدارة البيانات والمعلومات والحصول بالتالي على نتائج متقدمة، إلا أنّ تلك النتائج سرعان ما تنتقل جزئيا أو كليّا هي وآثارها إلى المجتمعات الأخرى التي تستقبل ذلك باعتبارها أسواقا مستهدفة، أو لكونها قادرة على الوصول إلى حدّ من المعلومات يعرّفها بتلك التطوّرات وبأثرها على الإنسان وحياته.
هذا يحدث بشكل إجباري، خاصة بالنسبة للمجتمعات المستهلكة للمعرفة أكثر من إنتاجها لها؛ فهي لا تملك رفاهيّة اختيار أن تتغيّر أو لا، أو أن تتأثّر بالمجتمعات الأخرى أو لا. إنها تتأثّر حتى لو كانت تعلن رفضها للمجتمعات الأخرى ولقيمها ولتحوّلاتها، وقد يبدو الرفض ردة فعل مؤقّتة، لا تمكث طويلا حتى تكتشف أنها تمارس ما ترفضه أو بعضه دون أن تعي ذلك، وتظن أنها تختار بين ما يبرز أمامها من خيارات، لتجد أنّ كلّ الخيارات في عمقها تقود إلى اتجاه واحد وتؤدي على المستوى العميق إلى نتائج متشابهة.
يمكن أن يعبّر عن ذلك ويجسّده رمزيّا ما حدث لـ ’جومبي‘ مطارِد الحشرات ودارسها في رواية “امرأة في الرمال” للروائي الياباني كوبو آبي، حيث يخرج في رحلة باحثا عن حشراته لمدة يومين في صحراء مجاورة لمدينته، ويقرر أن يقضي ليلته في بيت هو عبارة عن حفرة من الرمال تحيا فيها امرأة، فتتحول مدة الرحلة من يومين إلى سنين طويلة وهو حبيس في الحفرة، وتفشل كلّ محاولاته في الهرب بسبب الرقابة المحكمة التي يضربها أهل القرية الرمليّة عليه، حتى في المرة التي نجح فيها في الخروج من الحفرة طارده أهل القرية وهو يحاول أن يفكّر بالطريقة التي يفكّر فيها مطاردوه، ليهرب في اتجاه مخالف لاتجاههم، فيجد أنّهم يعرفون أنّه يحاول أن يفكّر بطريقة تفكيرهم وأنّه سوف يعمل على مخالفة اتجاههم في ملاحقته، فيعود مجبرا إلى حفرته، ولا يحاول بعد ذلك الخروج، حتى عندما أتيحت له الفرصة لذلك وقت خروج المرأة لتنجب ابنها وابن ’جومبي‘، يغيب الحرس، لكنّه لا يخرج، ويجد نفسه منجبلا بالمكان الرملي الذي سيكون فضاء ابنه الطبيعي.
هنا لا بدّ من إبراز مفارقات عدّة، أوّلها أنّ ’جومبي‘ ظلّ خلال سنين سجنه الطويلة يظنّ أنّه أخطأ لأنه اختار الدخول للحفرة، لكنّه في الحقيقة لم يكن أمامه إلا الدخول في الحفرة التي أرشده إليها أحد السكان هناك أو الضياع في الصحراء، ولو دخل بيتا أو حفرة أخرى لوصل إلى النتيجة نفسها. وبعد الدخول، كان ’جومبي‘ على المستوى الشكليّ يحاول بشكل دائب الخروج، غير أنّه على مستوى أعمق كان يعمل على ربط نفسه بالمكان ويحاول تحسين ظروفه فيه، فيبحث مثلا عن الماء ووسائل جمعه، وكان يرتبط في الآن ذاته عاطفيّا بالمرأة التي تملك البيت/الحفرة، وهو ما سيقود في النهاية إلى غرس ابنه في أحشائها. ’جومبي‘ كان يعمل على رمي جذوره في الرمال وهو يبدو مقاوما لها. في النهاية حين تتاح له فرصة الخروج، لا يعود لذلك أيّ معنى أو قيمة، لا سيّما أنّ رؤيته لأهل البلدة الرملية انقلب رأسا على عقب؛ فقد تحوّلت نظرته عنهم من جلادين إلى ضحايا أمام أبعاد المدن المسيطرة.
تحدث أحداث مشابه للمجتمعات في صيرورتها؛ تظنّ أنّها تملك خيار أن تدخل الحفرة أو لا، لكنّها في الحقيقة تختار بين قنوات تؤدي جميعها إلى الحفرة نفسها، تظنّ أنّها ترفض بعض القيم والأفكار والمؤثرات، وهي في الحقيقة تمارسها وتؤصل نفسها فيها، وتسير بشكل مطّرد باتجاهها حتى تغدو حاجة أساسيّة لا يمكن الاستغناء عنها. وقد لا تعود خاضعة أساسا للقبول والرفض، بل ويصير الاختلاف عن نمط الحياة الجديد شكلا كاريكاتيريا مثيرا للسخرية والضحك، ونقيضا للمهارات العصرية اللازمة في الحياة الحديثة، حتى التراث لا يشكل بديلا عمليا. يعبّر القاص الأردني نبيل عبد الكريم في قصّة تمتلئ بالسخرية، وهي ’المعجم الوسيط‘ في مجموعته “مصعد مزدحم في بناية فارغة” عن شخصية مهووسة بكلمات بائدة لم تعد صالحة للعصر الحديث ولا مستخدمة فيه، مع أنّها كلمات معجميّة صحيحة، فترسم القصة شخصيّة ’إبراهيم‘ بصورة مضحكة تنتمي لعصر الديناصورات المنقرضة، ولا تكفّ أحلامُه عن الاستدارة للخلف، فيتلقى ردا مهينا من حبيبته التي قال لها إنه يتمنى لو أنهما يعيشان معزولين في جزيرة لا وجود لها على الخريطة، يستتران بفروة دب جبلي، ويحملان رمحين للصيد، وحين تلد طفلهما سيقطع حبله السُري بحجر مُدبب من الصوان.
قال ذلك رداً على دعوتها له بأن يكون جسوراً في شؤون حياته، ويبدو أن نجوى لم ترغب في مشاركته أحلامه، فقالت: “لا وجود لمثل هذه الجزر المنسية اليوم، نحن في زمن الأقمار الصناعية التي تكشف ثُقب النملة، وعليك أن تكفّ عن العيش في زمن روبنسون كروزو”.
ومما لا شكّ فيه أنّ تعرّض الإنسان في العصر الحالي لمؤثّرات ومحرّكات متشابهة نسبيّا يعني أنّ المجتمعات تتحرّك في اتجاهات متقاربة، حتى لو كان ذلك متفاوتا في السرعة والطبيعة. هذا الأمر يُحدث، من ناحية، تقاربا كبيرا بين المجتمعات في التصورات والأفكار والقيم حول الإنسان والوجود والعلاقات الإنسانيّة، ومن ناحية أخرى، هذا يجعل المجتمعات أكثر تقبّلا لوجود تصوّرات مختلفة عن تصوّراتها، فهي تسير باتجاهها ويمكن لها أن تعرف خلفياتها وسياقاتها التي أدّت إلى ذلك المختلف.
وتلعب وسائل التواصل الحديثة دورا حاسما في خلق هذه القابلية للتصوّرات المختلفة والغريبة، فالمجتمعات تتعرّف على المشابه لها والمختلف عنها في الوقت نفسه، وهذا يجعلها تألف المختلف والغريب، ويخلق الليونة اللازمة للتعايش معه، وبالتالي يتراجع الإحساس بالتميّز والاختلاف، باعتبار ذلك الشعور من أهمّ العوامل المشكّلة للهويّة الفرديّة. يبرز بالمقابل الإحساس بالتشابه الذي هو أساس الإحساس بالهوية الجمعيّة. وهذه الأخيرة تعني في هذا السياق جمعيّة على المستوى الإنساني، وليس على المستوى المجتمعي المحلّي، فروابط التشابه التي يتم وعيها بين أفراد مجتمع ما لتشكيل شعوره بهُوية واحدة أصبحت تفعل شيئا شبيها بين المجتمعات والجماعات الإنسانيّة المتباعدة، فتتشكل من هذا الشعور هوُية جمعيّة إنسانيّة عابرة للحدود وقائمة على المشترك الإنساني الذي يتعاظم مع مرور الوقت وتشابه الحاجات والمؤثرات.
عندما ظهرت الدولة الحديثة تم إخضاع سكان الدولة كافة لجملة النظم التي تمكّن أجهزة الدولة السياسية والإداريّة والعلمية من العمل في كافة أجزائها، بحيث يتمكن الساسة والعلماء والتجار من الانتقال من مدينة إلى أخرى، ومن جامعة إلى أخرى، ومن مستشفى إلى آخر وهكذا. خطوة أكثر تقدما حدثت في النظام العالمي الجديد في دمج الأمم والثقافات واللغات في دائرة واحدة، هذه الدائرة تأخذ بالاتساع أكثر فأكثر، فمن دائرة الدولة التي تحطم القوميات الفرعية، إلى دائرة اتحادات دولية، مثلا الاتحاد الأوروبي الذي يعمل على التجاوز عن الهويات الوطنية، إلى الدائرة العالمية، إلى الدائرة الافتراضية التي تظهر على شبكات التواصل الحديثة وتمتلك خصائصها المميزة عن الدوائر الحقيقية الواقعية جغرافيا واجتماعيا، ويمكن الحديث هنا عن مفهوم الحداثة السائلة حيث تنتفي الحدود ليستمر العبور بشكل لا يحد.
من المؤكّد أنّ مثل هذا الانفتاح في النظام الإنسانيّ يثير المخاوف في المجتمعات التي يقتصر دورها على تلقي التأثيرات، على الرغم من أنّها توفر الحريّة بالمقام الأوّل، لكنّها حريّة لا مناص من خيارتها، وعدم التمتع بها أمر غير متاح، ولا يعدو أن يكون ردة فعل مؤقتة. هذه الحريّة تعني إمكانيّة دائمة للتغيير وعدم الاستقرار في الأفكار والرؤى والمواقف، الأمر الذي قد يبدو ملتبسا بالفوضى. التغيير والتحوّل في الهويات الخاصة وقيمها ضرورة لا مناص منها، لما قد تشكّله تلك الهويّات والقيم من عقبة أمام الشركات الكبرى التي ترى أن العالم كله سوقُها وفرصتُها، فلا بد من جعلها قابلة لما تنتجه وبحاجة دائمة له، فتحوّل العالم إلى “قرية صغيرة”. وفي صلب هذا التحوّل تظهر مفاهيم أساسيّة مثل “القيم الإنسانية” التي تنطبق على البشر أجمعين، كالحرية والمساواة بين البشر في ألوانهم وأديانهم وأعراقهم. على المجتمعات المنفعلة بهذا العالم الجديد أكثر من كونها فاعلة أن تتحول بإردة وتخطيط لتتمكن من امتلاك أدوات هذا العالم والانتفاع من خصائصه وسماته، والمشاركة في المنافسة وخلق خياراته. التراجع والانعزال ليس خيارا منجيا، ليس أمام المجتمعات إلا الإقدام والاستمرار في ذلك، وإن لم تنافس ستكتفي بأن تكون مجتمعات مستهلكة، وربما تنتفع من بعض الفوائد، كتوفير ما تحتاجه من الدواء مثلا، لكن ذلك الدواء ليس بدون ثمن. الصورة العالمية للحاجات الإنسانية حطمت الأولويات والخيارات المحلية بكل مستوياتها، فإما الإقدام للمشاركة في الإنتاج والتعلّم والتطوّر وفق المعايير المعاصرة، وإما البقاء في دائرة الانفعال دون الفعل.