كتاب يعيد الاعتبار لاهتمام الدولة العثمانية بالعلم وأهله
الكتاب: العلم عند العثمانيين.. الإبداع الثقافي والتبادل المعرفي
المؤلفة: ماري شيفير موسنسون
ترجمة: محمد شعبان صوان
الناشر: ابن النديم للنشر والتوزيع ـ دار الروافد الثقافية/2019
تطرح المؤرخة الثقافية والاجتماعية، المختصة بدراسة العالم الإسلامي ما قبل الحديث، ماري شيفير موسنسون تساؤلا في بداية كتابها “العلم عند العثمانيين..” عن السبب وراء المنجز المتواضع في مجال الكتابة عن تاريخ العلم والتقنية في الدولة العثمانية، ولا تتأخر كثيرا في اقتراح تفسير له مرتبط كما تقول بـ “نظرية الانحدار”.
استبطنوا الخطاب الاستشراقي
إنها نظرية تركز على موضوع الضعف الإسلامي في مقابل صعود وتطور العالم الغربي المسيحي، و”وفقا لهذا النموذج فإنه بعد العصر الإسلامي الذهبي والسلالة العباسية في العصور الوسطى، التي تميزت بحب الاستطلاع الثقافي والبحث المبتكر، زالت الرغبة في التجديد، وميزت العزلة والانطواء كل مناحي الحياة وأدى ذلك إلى الانحدار السياسي، مرورا بالدين والاقتصاد وانتهاء بالثقافة والعلم..”، ولم ينهض العالم الإسلامي من جديد إلا في القرن التاسع عشر بعد “التغلغل” الغربي في مناطقه.
توضح موسينسون أن هذه النظرية منعت الكثير من المؤرخين الغربيين من دراسة وبحث هذا الجانب بشكل واف، بينما كتب المؤرخون الأتراك عن ذلك باللغة التركية فقط، “وفوق ذلك فإن كثيرا من العلماء الأتراك استبطنوا الخطاب الاستشراقي وقبلوا فرضيته عن الانحطاط الإسلامي ومسؤولية الدين عن ذلك، ومثل هذا الخطاب وجد له مكانا في الفكرة القومية التي دافعت علنا عن الهوية التركية الغربية العلمانية، وفي هذا الإطار فإن الأكاديميين الأتراك اتصلوا بالماضي العثماني في العلم من زاوية محددة جدا فقط: عملية تغريب العلم وتغلغل الغرب داخل عالم الإسلام بواسطة العلم والتقنية”.
إن النخبة العثمانية اهتمت أولا بنظام الرعاية لاهتمامها بالمعرفة بشكل أساسي، كما أنها رعت المشتغلين بالعلم أحيانا من منطلق اجتماعي، وأسست لهم الأوقاف لتمويل نشاطهم العلمي
يركز كتاب موسينسون على الروافد الاجتماعية والثقافية التي أنتجت “العلم العثماني”، وهو، بحسب ما تبين المؤلفة، يهتم بالكيفية التي تعامل بها العثمانيون في تحصيل المعرفة في “الأزمنة والأمكنة المختلفة”، وبمنتجي هذه المعرفة ومستهلكيها في دوائر النخبة وخارجها. كما يطرح الكتاب فرضية عن أن التفوق والتجديد العلمي في الحياة العثمانية لم يكن مطابقا بالضرورة لما نعرفه اليوم عن معنى “الاختراع”، إذ قام العثمانيون بالاعتماد على مصادر وقوى خارجية في ما يتعلق بالعلوم “مع بقائهم مستقلين تماما في عملية الإنتاج”.
لكن موسينسون تلفت أيضا الانتباه إلى أن عملية “تبني وتعديل العلم والتقنية لم تكن متساوية في كل حقول النشاط العلمي أو على امتداد القرون الستة من الوجود العثماني. لقد تلاشى الاكتفاء الذاتي العثماني في القرن التاسع عشر، واتجه العثمانيون في بعض الحالات ـ مثل سياسة التسلح ـ نحو استيراد المنتجات النهائية وخفضوا محاولاتهم لتوطين التقنية..”.
تناقش موسينسون في كتابها فرضية ثانية تقترح وجود “علم عثماني” له سمات فريدة تجعله متميزا عن بقية المنظومات العلمية في زمنه، وأخرى تؤكد على أن المجتمع والثقافة العثمانيين” كانا أرضا خصبة لأنشطة علمية متنوعة، وهذا يناقض الفكرة التي ما زالت سائدة في كثير من الدوائر العلمية وغير العلمية، وهي أنه بعد العصر الإسلامي الذهبي.. عزل المسلمون أنفسهم عن الحضارات الأخرى.. وأن العثمانيين كانوا بالفطرة معارضين للاختراعات والتجديدات”.
مصادر المعرفة
في الفصل الأول من الكتاب تتناول موسينسون مصادر المعرفة التي استفاد العثمانيون منها، بهدف الاستدلال على أن “العثمانيين استوعبوا تراثا متعددا ومتنوعا من مصادر جيوثقافية مختلفة”. وهذا التراث كان متنوعا في صفاته أيضا، فكان أحيانا مكتوبا، وأحيانا أخرى منقولا شفهيا، كما كان بعضه عميقا واسع المعرفة وبعضه الآخر فلكلوريا، وبحسب المؤلفة فإن العثمانيين “لم ينجحوا في إخفاء هذه الطبقات المتعددة (من المعرفة)، وقد خلطوا هذا التراث في كائن جديد، ولم يكن ذلك بشكل سلس دائما أو خال من التوترات”.
مصادر المعرفة كما حددتها موسينسون هي على التوالي: الوحي الإلهي، والشخصيات النموذجية” التي كان بعضها أسطوريا وليس له حقيقة تاريخية”، والعقل والمنطق، والملاحظات والتجارب والخبرات، والمعرفة التي تأتي من التراث الحي، أي ما هو قائم على إجماع عام والمقبول والمألوف اجتماعيا. وهي مصادر لطالما امتزجت مع بعضها البعض، كما أن المجالات المعرفية نفسها شهدت دمجا وارتبطت ببعضها. تقول موسينسون:” إننا نعرف أن مجموعات المكتبات العثمانية تشير إلى تكامل حقول المعرفة المختلفةعلى أرفف المكتبات.. (فقد) أظهرت خليطا من كتب الحديث الشريف وتفاسير القرآن، وعلم فقه اللغة العربية، والفلسفة، والتاريخ، والطب، والتصوف، والأدب، والشعر، وضمت كذلك رسائل بمختلف لغات المسلمين.. العربية والتركية العثمانية والفارسية”.
في العقود الأخيرة من عمر الدولة العثمانية كان التعليم قد أصبح إلزاميا، وخضعت المدارس لبنية هرمية وفق المنهج الغربي
تلفت موسينسون الانتباه إلى أن القرنين الخامس عشر والسادس عشر وصولا إلى القرن الثامن عشر شهدت تطور حقول معينة من الفلسفة في العهد العثماني تحديدا في حقل المنطق، حيث تزايد عدد الرسائل المكتوبة التي تفسر وتلخص وتختصر رسائل موجودة أصلا، لكنها مع ذلك توضح وجود “تفكير تجديدي ونقد للفلاسفة الأوائل ولا تفتقر إلى التطور”.
كما عرفت هذه القرون اهتماما واضحا بعلمي الفلك والتنجيم لأسباب متفاوتة منها أن “الفلك كان وسيلة لتمجيد قدرة الخالق بالفهم العلمي للطرق المعقدة التي يعمل بها الكون” فضلا عن عن الفلكيين والمنجمين كانوا يحددون أوقات الصلاة والمناسبات الدينية، ويعدون التقاويم والخرائط، وينظمون أدوات الإبحار، ويعينون الاتجاه الدقيق لمكة. لقد ثبت من النصوص وأدوات الرصد والحساب التي وصلت إلينا، كما تبين موسينسون، انه تم التركيز كذلك على حقول فرعية من الفلك والتنجيم تتضمن على سبيل المثال استخدام الاسطرلاب، وعلم رصد الأجسام السماوية بواسطة الأدوات. لكن دمج هذين المجالين من المعرفة لم يكن سلسا، “فتأسيس مرصد سلطاني في اسطنبول في القرن السادس عشر وإغلاقه وتدميره بعد سنتين مشهد.. (يلاحظ) فيه الانفصال والاندماج بين التنجيم والفلك، القبول والرفض المتزامنين ، وكيف أن الحزبين اللذين مع وضد الفلك/التنجيم أدارا تنافسهما، ومصير المرصد يوضح هذه المتاهة من المواقف والمصالح”.
مزج الديني بالعقلي
تنتقل موسينسون في الفصل الثاني من كتابها للحديث عن “أين وكيف جرى التعليم” في الدولة العثمانية، مشيرة إلى ضعف المعلومات الموثوقة في هذا الجانب، سيما في الفترة المتعلقة بالقرنين السادس عشر والسابع عشر، ما يجعل أي باحث مضطر لاستخدام ما توفر من انطباعات وتقديرات كل من العثمانيين والأوروبيين عن تلك الفترة الزمنية.
وبحسب ما تنقله هذه المصادر فإن طرق اكتساب العلم تنوعت لتشمل التعليم الذاتي، والمدارس الرسمية، والتعليم في البيت لدى معلم خاص بشكل فردي أو جماعي، والتدريب عند حرفي، كما درست النساء في جميع مراحلهن العمرية لكن المنتميات إلى طبقة النخبة حصلن غالبا تعليمهن في البيت بوجود معلم خاص، في حين التحقت الفتيات من الطبقات الدنيا بمؤسسات عامة قرب المسجد أو الكنيسة، أو في البيت في حلقات درس للنساء من الحي.
وتضمنت المعارف المدرّسة علوم الدين بشكل أساسي، مضافا إليها أحيانا الحساب والجغرافيا والتاريخ، وفي بعض الأماكن كان يتم تدريس الهندسة والفلك والجبر، حتى في التكايا والزوايا الصوفية. لكن موسينسون تستدرك هنا لتوضح أنه من الصعب “تقويم مدى أهمية الظاهرة العثمانية في مزج الديني بالعقلي.. فالمدى الذي كانت فيه المواد غير الدينية تعلم بشكل منظم في المدارس وأهميتها النسبية في المناهج تظل محل شك..رغم أن كثيرا من العلماء مزجوا بالفعل التعليم الديني بالعلم الطبيعي والعلوم البحتة.. فإننا لا نعرف مدى علاقة معارفهم المتنوعة بتعليمهم وتدريسهم في المدارس”.
رعاية النخبة للعلم والفن هي تراث مشرقي إسلامي، حيث كانت العلاقة بين الراعي والمحمي شخصية وحميمة،
تقول موسينسون: إن الأشكال المتعددة من التعليم والتدريس التي عرفتها الدولة العثمانية على مدى قرون تغيرت في القرن التاسع عشر، حيث لعب التعليم دورا هاما في إصلاحات السلاطين والوزراء التي أدت إلى تحول الدولة نحو المركزية والحداثة. وكانت الأولوية للإصلاحات التعليمية العسكرية، “وكان الطلبة الضباط هم الأوائل الذين أرسلوا إلى مختلف العواصم الأوروبية، وبالإضافة إلى ذلك، كانت الغاية من المدارس الجديدة التي افتتحت في مركز الدولة غاية عسكرية بوضوح”. لكن هذه المدارس العسكرية “منحت.. قوة الدفع لنظام تعليمي جديد وواسع”. على سبيل المثال أعيد فتح مدرسة الرياضيات في العام 1773 لأجل الأسطول، التي قدمت نموذجا لمدارس هندسةمشابهة في الجيش في سنة 1793، وكليات طبية في سنة 1827، ومدارس موسيقى في سنة 1831، ودراسات العلوم البحرية في سنة 1834.
وفي العقود الأخيرة من عمر الدولة العثمانية كان التعليم قد أصبح إلزاميا، وخضعت المدارس لبنية هرمية وفق المنهج الغربي، و”كان النموذج التعليمي الجديد .. تحت سيطرة الدولة، فالتقنيات التعليمية والتربوية تقرر في المركز وتطبق في الولايات”.
نظام الرعاية
تبحث موسينسون في الفصل الثالث من الكتاب الطرائق والوسائط التي انتقلت بها المعرفة من وإلى وضمن الدولة العثمانية، سواء كانت ممثلة بالأدوات كالقراءة والكتابة والطباعة، حيث توسعت فس شرح سياقات تطورها وواقع حالها في المراحل المختلفة من عمر الدولة، أو عبر الأشخاص من مترجمين وطلاب علم ورحالة مسلمين وأوروبيين، متطرقة لهوياتهم الاجتماعية والجغرافية والدينية والمهنية والجنسية، مؤكدة على أن “العقلية العثمانية (كانت) نتاج أشخاص كثيرين.. وأن تجاور هذه الطاقات الإنسانية أوجد قنوات لحركة المعرفة داخل الدولة العثمانية”.
وتتوقف في الفصل الرابع عند دور الدولة في رعاية العلم والمتعلمين والعلماء، إذ توضح أن انشغال الدولة (فرديا ورسميا) بالعلم كان واسعا ومهما ويظهر في أوضح صوره بما عرف بـ “نظام الرعاية الذي كان يربط العلماء بأفراد من النخبة. وهذا النظام أضفى الطابع المؤسسي على تفضيل علماء معينين وحقول محددة من النشاط، فبواسطة الرعاية أمكن لأعضاء في النخبة أن يحشدوا كل نفوذهم،.. من أجل المشاريع العلمية والتقنية وتوجيه تطورها”.
وتضيف موسينسون: إن النخبة العثمانية اهتمت أولا بنظام الرعاية لاهتمامها بالمعرفة بشكل أساسي، كما أنها رعت المشتغلين بالعلم أحيانا من منطلق اجتماعي، وأسست لهم الأوقاف لتمويل نشاطهم العلمي، وفتحت لهم أحيانا أخرى أبواب القصور والمدارس لممارسة هذه الأنشطة.
تشير موسينسون إلى أن رعاية النخبة للعلم والفن هي تراث مشرقي إسلامي، حيث كانت العلاقة بين الراعي والمحمي شخصية وحميمة، “ولكن أثناء العهد العثماني تم إضفاء الطابع المؤسسي في ظل الدولة، وصار العلماء يحتلون مناصب رسمية في البلاط والبيروقراطية،.. ولكن لم يكن إضفاء الطابع المؤسسي سببا في جعل العلاقة الشخصية بلا أهمية، بل إنه منح بعدا إضافيا للنشاط العلمي”.